الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وتقسم أربعة أخماسه بين من حضر الوقعة دون من بعدها ، واحتج بأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قالا : " الغنيمة لمن شهد الوقعة " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما ذكر إذا خرج من الغنيمة خمسها ، ورضخ من لا سهم له فيها كان باقيها للغانمين الذين شهدوا الوقعة ، يشترك فيها من قاتل ومن لم يقاتل : لأنه كان ردا للمقاتل ، قال الله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول [ الأنفال : 41 ] . فلما أضاف الغنيمة إليهم واستثنى خمسها منهم دل على أن باقيها لهم ، كما قال تعالى : وورثه أبواه فلأمه الثلث [ النساء : 11 ] . فكان الباقي بعد الثلث للأب ، فإن لحق بمن شهد الوقعة مدد من المسلمين عونا لهم فعلى ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن يلحقوا بهم قبل تقضي الحرب وانكشافها ، فالمدد يشركهم في غنيمتها إذا شهدوا بقية حربها .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يلحقوا بهم بعد تقضي الحرب وإجازة غنائمها ، فلا حق لهم في غنيمتها سواء أدركوهم في دار الحرب أو بعد خروجهم منها .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن يلحقوا بهم بعد تقضي الحرب وإجازة غنائمها ، فشهدوا معهم إجازتها ففيها قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : يشاركونهم فيها .

                                                                                                                                            والثاني : لا يشاركونهم .

                                                                                                                                            وهذان القولان مبنيان على اختلاف قولي الشافعي فيما تملك به الغنيمة بعد إجازتها ، فأحد قوليه : إنها تملك بحضور الوقعة ، فعلى هذا لا حق للمدد فيها .

                                                                                                                                            والقول الثاني : إنهم ملكوا بالحضور أن يتملكوها بالإجازة ، فعلى هذا يشاركهم المدد فيها ، ويخرج على القولين المدد اللاحق بهم بعد الوقعة وإجازة الغنائم ، وهو مذهب مالك ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وأحمد ، وإسحاق .

                                                                                                                                            [ ص: 160 ] وقال أبو حنيفة : إن لحق بهم المدد وهم في دار الحرب أو بعد خروجهم منها وقبل قسمتها شاركوهم فيها ، وإن لحقوا بهم بعد خروجهم من دار الحرب وبعد قسمة الغنائم في دار الإسلام لم يشركوهم استدلالا بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن عامر إلى أوطاس ، فعاد وقد فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - حنينا فأشركهم في غنائمها .

                                                                                                                                            وبما روي أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أمراء الأجناد أن من جاءكم من الأمداد قبل أن يتفقأ القتلى فأعطوه من الغنيمة .

                                                                                                                                            وروى الشعبي أن عمر كتب بذلك إلى سعد بن أبي وقاص ، ولأن القوة بالمدد هي المؤثرة في الظفر فصاروا فيها كالمكثر والمهيب ، فوجب أن يكونوا بمثابتهم في المغنم ، ولأن الغنيمة لا تملك عنده إلا بالقسمة لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لا يجوز لواحد منهم بيع سهمه منها قبل القسمة ، ويجوز بيعه بعدها .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو استولى المسلمون على قرية من بلادهم دفعهم المشركون عنها ، وفتحها آخرون من المسلمين كانت غنيمة للآخرين دون الأولين .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول [ الأنفال : 41 ] . فأضافها إلى الغانمين فدل على أنه لا حق فيها لغيرهم .

                                                                                                                                            وروى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبان بن سعيد بن العاص من المدينة في سرية قبل نجد ، فقدم أبان وأصحابه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحنين وقد فتحها فقال أبان : اقسم لنا يا رسول الله فقال : اجلس يا أبان ولم يقسم له .

                                                                                                                                            وروى أبو بكر - رضوان الله عليه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الغنيمة لمن شهد الوقعة .

                                                                                                                                            وقد رواه الشافعي موقوفا على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وهو أثبت ، ووقوفه عليهما حجة ؛ لأنه لم يظهر لهما مخالف ، ولأن أبا حنيفة وافقها في المدد لو كانوا أسرى في أيديهم فأفلتوا منهم ولحقوا بالمسلمين لم يسهم لهم ، فكذلك غير الأسرى ، ولو لحقوا بهم في الوقعة شاركوهم ، فكذلك غير الأسرى ، ويتحرر من هذا الاستدلال قياسان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه وصول بعد القفول ! فلم يشركوا في الغنيمة كالأسرى .

                                                                                                                                            والثاني : أن ما لم يشاركهم فيه الأسرى لم يشاركهم فيه المدد ، قياسا على ما بعد قسمة الغنيمة .

                                                                                                                                            [ ص: 161 ] فأما الجواب عن حديث عبد الله بن عامر فهو أنه كان في جيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحنين وأنفذه إلى أوطاس - وهو واد بقرب حنين - حين بلغه أن فيه قوما من هوازن ، فكان من جملة جيشه ، ومستحق الغنيمة فلذلك قسم له وخالف من ليس منهم .

                                                                                                                                            وأما حديث عمر فهو : إن صح مما لا يقول به أبو حنيفة : لأنه جعل استحقاق الغنيمة معتبرا بفقوء القتلى ، وفقوءهم غير معتبر : فلم تكن فيه حجة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن الظفر بالمدد فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : بطلانه بالمدد اللاحق بعد القسم .

                                                                                                                                            والثاني : أن أسباب الظفر ما تقدمت أو قاربت ، ولو كانت مما تأخرت لكانت بمن أقام ولم ينفر ، وأما الجواب عن استدلالهم بأنها لا تملك إلا بالقسمة : فهو أنه أصل لهم يخالفهم فيه كالخلاف في قرعة ، واحتجاجهم فيه بأن القرية للآخرين فنحن نجعلها للأولين ، وقولهم إن بيعها قبل القسمة لا يجوز ، فنحن نجوزه إذا اختار الغانم تملكها ، ونجعل بيعها اختيارا لتملكها ، فلم يسلم لهم بناء على أصل ولا استشهاد .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية