الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر حكم أهل الكتاب أنهم مقرون بالجزية على ما تدينوا به من شرائعهم ، فالكلام في تعيينهم ، وحكم من دخل في أديانهم مشتمل على فصلين : أحدهما : من عرف كتابه ودينه من اليهود والنصارى .

                                                                                                                                            والثاني : من لم يعرف .

                                                                                                                                            فأما المعروفون من اليهود المتدينون بالتوراة والنصارى المتدينون بالإنجيل فضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : من عاينه وآمن به وتدين بكتابه كاليهود الذين كانوا في عصر موسى ، والنصارى الذين كانوا في عصر عيسى من بني إسرائيل ، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وأبناء هؤلاء الآباء مقرون على دينهم بالجزية ، وهم أبناء من عاصر موسى وعيسى ، فإن لم يبدلوا كانت لهم حرمتان : حرمة آبائهم أنهم كانوا على حق ، وحرمة بأنفسهم في تمسكهم بكتابهم ، وإن بدلوا أقروا مع التبديل لإحدى الحرمتين ، وهي حرمة آبائهم ، وليس لهم حرمة أنفسهم في التمسك بكتابهم : لأن المبدل لا حرمة له .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : من دخل في دينهما من غيرهما ، بعد انقضاء عصر نبوتهما ، وهو أن يدخل في اليهودية بعد موسى ، وفي النصرانية بعد عيسى ، فهذا على ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            [ ص: 289 ] أحدهما : أن يدخلوا فيه قبل تبديله .

                                                                                                                                            والثاني : أن يدخلوا فيه بعد نسخه .

                                                                                                                                            والثالث : أن يدخلوا فيه بعد تبديله وقبل نسخه .

                                                                                                                                            فأما القسم الأول : وهو أن يدخلوا فيه قبل تبديله ، فهم مقرون عليه بالجزية كالداخل فيه على عصر نبيه ، وسواء كان أبناؤهم الآن مبدلين أو غير مبدلين ، ولأن لهم حرمتين إن لم يبدلوا ، وحرمة واحدة إن بدلوا : لأن دينهم على حق بعد موت نبيهم كما كان على حق قبل موته ، فاستوت حرمة الدخول فيه من الحالين .

                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : وهو أن يدخلوا فيه بعد نسخه ، وبعد نسخ شريعة عيسى في النصرانية بشريعة الإسلام .

                                                                                                                                            فأما نسخ شريعة موسى ففيه وجهان حكاهما أبو إسحاق المروزي :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها تكون منسوخة بالنصرانية - شريعة عيسى - وهو أظهرها ، لاختلافهما وأن الحق في أحدهما .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنها منسوخة بشريعة الإسلام دون النصرانية : لأن عيسى نسخ من شريعة موسى ما خالفها ، ولم ينسخ منها ما وافقها ، وإنما نسخ الإسلام جميع ما تقدمه من الشرائع .

                                                                                                                                            فإذا ثبت ما نسخ به كل شريعة ، فمن دخل في دين بعد نسخه لم يقر عليه ، لعدم حرمته عند دخوله فيه ، فصار كعبدة الأوثان في عدم الحرمة .

                                                                                                                                            وقال المزني : يقر الداخل فيه بعد نسخه كما يقر الداخل فيه قبل نسخه وتبديله ، لقول الله تعالى : ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، [ المائدة : 51 ] . وهذا فاسد بما عللنا به من عدم الحرمة فيما دخل فيه .

                                                                                                                                            وقوله : ومن يتولهم منكم فإنه منهم يعني في وجوب القتل : لأن من تولاهم منا مرتد لا يقر على ردته .

                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : وهو أن يدخلوا فيه بعد التنزيل وقبل النسخ ، فعلى ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يدخلوا فيه مع غير المبدلين مثل الروم ، فيكونوا كالداخل فيه قبل التبديل في إقرارهم بالجزية ونكاح نسائهم وأكل ذبائحهم : لأن حرمته في غير المبدلين ثابتة .

                                                                                                                                            [ ص: 290 ] والقسم الثاني : أن يدخلوا فيه مع المبدلين كطوائف من نصارى العرب ، فيكونوا كالداخل فيه بعد النسخ .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يشكل حال دخولهم فيه هل كان مع المبدلين أو مع غير المبدلين : أو يشكل هل دخلوا قبل التبديل أو بعد التبديل كتنوخ وبهراء وبني تغلب ، فهؤلاء قد وقفهم الإشكال بين أصلين :

                                                                                                                                            أحدهما : يوجب حقن دمائهم واستباحة نكاحهم ، كالداخل فيه مع غير المبدلين .

                                                                                                                                            والثاني : يوجب إباحة دمائهم ، وحظر مناكحهم كالداخل فيه مع المبدلين ، فوجب أن يغلب في الأصلين معا حكم الحظر دون الإباحة ، فيقروا بالجزية حقنا لدمائهم : لأن أصل الدماء على الحظر ، ولا تنكح نساؤهم ، ولا تؤكل ذبائحهم : لأن أصل الفروج على الحظر ، والحظر تعيين ، والإباحة شك ، فغلب حكم اليقين على الشك ، وصاروا في ذلك كالمجوس ، فهذا حكم الكتاب المشهور ، والدين المعروف .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية