الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( والاستصناع ) هو طلب عمل الصنعة ( بأجل ) ذكر على سبيل الاستمهال لا الاستعجال فإنه لا يصير سلما ( سلم ) فتعتبر شرائطه [ ص: 224 ] ( جرى فيه تعامل أم لا ) وقالا الأول استصناع ( وبدونه ) أي الأجل ( فيما فيه تعامل ) الناس ( كخف وقمقمة وطست ) بمهملة وذكره في المغرب في الشين المعجمة وقد يقال طسوت ( صح ) الاستصناع ( بيعا لا عدة ) على الصحيح ثم فرع عليه بقوله ( فيجبر الصانع على عمله ولا يرجع الآمر عنه ) ولو كان عدة لما لزم [ ص: 225 ] ( والمبيع هو العين لا عمله ) خلافا للبردعي ( فإن جاء ) الصانع بمصنوع غيره أو بمصنوعه قبل العقد فأخذه ( صح ) ولو كان المبيع عمله لما صح ( ولا يتعين ) المبيع ( له ) أي للآمر ( بلا رضاه فصح بيع الصانع ) لمصنوعه ( قبل رؤية آمره ) ولو تعين له لما صح بيعه ( وله ) أي للآمر ( أخذه وتركه ) بخيار الرؤية ومفاده أنه لا خيار للصانع بعد رؤية المصنوع له وهو الأصح نهر

التالي السابق


مطلب في الاستصناع ( قوله هو لغة طلب الصنعة ) أي أن يطلب من الصانع العمل ففي القاموس : الصناعة : ككتابة حرفة الصانع وعمله الصنعة ا هـ فالصنعة عمل الصانع في صناعته أي حرفته ، وأما شرعا : فهو طلب العمل منه في شيء خاص على وجه مخصوص يعلم مما يأتي ، وفي البدائع من شروطه : بيان جنس المصنوع ، ونوعه وقدره وصفته ، وأن يكون مما فيه تعامل ، وأن لا يكون مؤجلا وإلا كان سلما وعندهما المؤجل استصناع إلا إذا كان مما لا يجوز فيه الاستصناع ، فينقلب سلما في قولهم جميعا ( قوله بأجل ) متعلق بمحذوف حال من الاستصناع ، لكن فيه مجيء الحال من المبتدأ ، وهو ضعيف ولا يصح كونه خبرا ، لأنه لا يفيد بل الخبر هو قوله : سلم والمراد بالأجل ما تقدم وهو شهر فما فوقه قال المصنف : قيدنا الأجل بذلك لأنه إذا كان أقل من شهر كان استصناعا وإن جرى فيه تعامل ، وإلا ففاسد إن ذكره على وجه الاستمهال وإن كان للاستعجال بأن قال على أن تفرغ منه غدا أو بعد غد كان صحيحا ا هـ ومثله في البحر وغيره وسيذكره الشارح .

( قوله ذكر على سبيل الاستمهال إلخ ) كان الواجب عدم ذكر هذه الجملة لما علمت من أن المؤجل بشهر فأكثر سلم ، والمؤجل بدونه إن لم يجر فيه تعامل ، فهو استصناع فاسد إلا إذا ذكر الأجل للاستعجال فصحيح كما أفاده ط وقد تبع الشارح ابن كمال ( قوله سلم ) أي فلا يبقى استصناعا كما في [ ص: 224 ] التتارخانية ، فلذا قال الشارح فتعتبر شرائطه أي شرائط السلم ، ولهذا لم يكن فيه خيار مع أن الاستصناع فيه خيار لكونه عقدا غير لازم كما يأتي تحريره ( قوله جرى فيه تعامل ) كخف وطست وقمقمة ونحوها درر ( قوله أم لا ) كالثياب ونحوها درر ( قوله وقالا الأول ) أي ما فيه تعامل استصناع لأن اللفظ حقيقة للاستصناع فيحافظ على قضيته ، ويحمل الأجل على التعجيل ، بخلاف ما لا تعامل فيه ، لأنه استصناع فاسد : فيحمل على السلم الصحيح وله أنه دين يحتمل السلم وجواز السلم بإجماع لا شبهة فيه ، وفي تعاملهم الاستصناع نوع شبهة فكان الحمل على السلم أولى هداية ( قوله وبدونه ) متعلق بقوله صح الآتي ، ومقابل هذا قوله بعد ولم يصح فيما لم يتعامل به ( قوله وذكره في المغرب في الشين المعجمة ) هو خلاف ما في الصحاح والقاموس والمصباح ( قوله وقد يقال ) أي في جمعه وبيانه ما في المصباح الطست قال ابن قتيبة : أصلها طس ، فأبدلت من أحد المضعفين تاء ، لأنه يقال في جمعها طساس كسهم وسهام ، وجمعت أيضا على طسوس لاعتبار الأصل وعلى طسوت باعتبار اللفظ ( قوله بيعا لا عدة ) أي صح على أنه بيع لا على أنه مواعدة ، ثم ينعقد عند الفراغ بيعا بالتعاطي ، إذا لو كان كذلك لم يختص بما فيه تعامل وتمامه في البحر .

قال في النهر : وأورد أن بطلانه بموت الصانع ينافي كونه بيعا وأجيب بأنه إنما بطل بموته لشبهه بالإجارة وفي الذخيرة : هو إجارة ابتداء بيع انتهاء ، لكن قبل التسليم لا عند التسليم ، وأورد أنه لو انعقد إجارة لأجبر الصانع على العمل والمستصنع على إعطاء المسمى ، وأجيب بأنه إنما لا يجبر لأنه لا يمكنه إلا بإتلاف عين له من قطع الأديم ونحوه والإجارة تفسخ بهذا العذر ألا ترى أن الذراع له أن لا يعمل إذا كان البذر من جهته ، وكذا رب الأرض ا هـ ومثله في البحر والفتح والزيلعي ( قوله فيجبر الصانع على عمله ) تبع في ذلك الدرر ومختصر الوقاية ، وهو مخالف لما ذكرناه آنفا عن عدة كتب من أنه لا جبر فيه ولقول البحر ، وحكمه الجواز دون اللزوم ولذا قلنا للصانع أن يبيع المصنوع قبل أن يراه المستصنع لأن العقد غير لازم ا هـ ولما في البدائع . وأما صفته : فهي أنه عقد غير لازم قبل العمل من الجانبين بلا خلاف حتى كان لكل واحد منهما خيار الامتناع من العمل كالبيع بالخيار للمتبايعين ، فإن لكل منهما الفسخ ، وأما بعد الفراغ من العمل قبل أن يراه المستصنع فكذلك حتى كان للصانع أن يبيعه ممن شاء ، وأما إذا أحضره الصانع على الصفة المشروطة سقط خياره وللمستصنع الخيار هذا جواب ظاهر الرواية وروي عنه ثبوته لهما وعن الثاني عدمه لهما والصحيح الأول ا هـ .

وقال أيضا : ولكل واحد منهما الامتناع من العمل قبل العمل بالاتفاق ، ثم إذا صار سلما يراعى فيه شرائط السلم فإن وجدت صح وإلا لا ا هـ وقال أيضا : فإن ضرب له أجلا صار سلما حتى يعتبر فيه شرائط السلم ، ولا خيار لواحد منهما إذا سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي عليه في السلم ا هـ . وذكر في كافي الحاكم أن للصانع بيعه قبل أن يراه المستصنع ثم ذكر أن الاستصناع لا يصح في الثوب ، وأنه لو ضرب له أجلا وعجل الثمن جاز وكان سلما ، ولا خيار له فيه ا هـ . وفي التتارخانية : ولا يجبر المستصنع على إعطاء الدراهم وإن شرط تعجيله هذا إذا لم يضرب له أجلا فإن ضرب قال أبو حنيفة يصير سلما ، ولا يبقى استصناعا حتى يشترط فيه شرائط السلم ا هـ .

فقد ظهر لك بهذه النقول [ ص: 225 ] أن الاستصناع لا جبر فيه إلا إذا كان مؤجلا بشهر فأكثر ، فيصير سلما وهو عقد لازم يجبر عليه ، ولا خيار فيه وبه علم أن قول المصنف فيجبر الصانع على عمله لا يرجع الآمر عنه إنما هو فيما إذا صار سلما فكان عليه ذكره قبل قوله ، وبدونه وإلا فهو مناقض لما ذكر بعده من إثبات الخيار للآمر ، ومن أن المعقود عليه العين لا العمل فإذا لم يكن العمل معقودا عليه كيف يجبر عليه . وأما ما في الهداية عن المبسوط ، من أنه لا خيار للصانع في الأصح فذاك بعدما صنعه ورآه الآمر كما صرح به في الفتح ، وهو ما مر عن البدائع ، والظاهر أن هذا منشأ توهمالمصنف وغيره كما يأتي وبعد تحريري لهذا المقام رأيت موافقته في الفصل الرابع والعشرين من نور العين إصلاح جامع الفصولين ، حيث قال بعد أن أكثر من النقل في إثبات الخيار في الاستصناع فظهر أن قول الدرر تبعا لخزانة المفتي أن الصانع يجبر على عمله والآمر لا يرجع عنه سهو ظاهر ا هـ فاغتنم هذا التحرير ولله الحمد .

( قوله والمبيع هو العين لا عمله ) أي أنه بيع عين موصوفة في الذمة لا بيع عمل أي لا إجارة على العمل لكن قدمناه أنه إجارة ابتداء بيع انتهاء تأمل .

مطلب ترجمة البردعي ( قوله خلافا للبردعي ) بالباء الموحدة وسكون الراء وفتح الدال المهملة وفي آخره عين مهملة ، نسبة إلى بردعة بلدة من أقصى بلاد أذربيجان ، وهو أحمد بن الحسين أبو سعيد من الفقهاء الكبار قتل في وقعة القرامطة مع الحاج سنة سبع عشرة وثلاثمائة وتمام ترجمته في طبقات عبد القادر ( قوله بمصنوع غيره ) أي بما صنعه غيره ( قوله فأخذه ) أي الآمر ( قوله بلا رضاه ) أي رضا الآمر أو رضا الصانع ( قوله قبل رؤية آمره ) الأولى قبل اختياره لأن مدار تعينه له على اختياره ، وهو يتحقق بقبضه قبل الرؤية ابن كمال ( قوله ومفاده إلخ ) قدمنا التصريح بهذا المفاد عن البدائع . وعلله بأن الصانع بائع ما لم يره ، ولا خيار له ولأنه بإحضاره أسقط خيار نفسه الذي كان له قبله فبقي خيار صاحبه على حاله ا هـ . وفي الفتح وأما بعدما رآه فالأصح أنه لا خيار للصانع بل إذا قبله المستصنع أجبر على دفعه له لأنه بالآخرة بائع ا هـ وهذا هو المراد من نفي الخيار في المبسوط فقول المصنف في المنح : ولا خيار للصانع ، كذا ذكره في المبسوط ، فيجبر على العمل لأنه باع ما لم يره إلخ صوابه أن يقول : فيجبر على التسليم لأن الكلام بعد العمل ، وأيضا فالتعليل لا يوافق المعلل على ما فهمه ، وهذا هو منشأ ما ذكره في متنه أولا وقد علمت تصريح كتب المذهب بثبوت الخيار قبل العمل ، وفي كافي الحاكم الذي هو متن المبسوط ما نصه والمستصنع بالخيار إذا رآه مفروغا منه وإذا رآه فليس للصانع منعه ولا بيعه ، وإن باعه الصانع قبل أن يراه جاز بيعه ( قوله وهو الأصح ) وهو ظاهر الرواية وعنه ثبوت الخيار لهما وعن الثاني عدمه لهما كما مر عن البدائع




الخدمات العلمية