الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإن قال إن لم أواف ) أي آتي ( به غدا فهو ضامن لما عليه ) من المال [ ص: 295 ] ( فلم يواف به مع قدرته عليه ) فلو عجز لحبس أو مرض لم يلزمه المال إلا إذا عجز بموت المطلوب أو جنونه كما أفاده بقوله ( أو مات المطلوب ) في الصورة المذكورة ( ضمن المال [ ص: 296 ] في الصورتين ) لأنه علق الكفالة بالمال بشرط متعارف فصح ولا يبرأ عن كفالة النفس لعدم التنافي ، فلو أبرأه عنها فلم يواف به لم يجب المال لفقد شرطه ، قيد بموت المطلوب ; لأنه لو مات الطالب طلب وارثه ، ولو مات الكفيل طولب وارثه درر ، فإن دفعه الوارث إلى الطالب برئ ، وإن لم يدفعه حتى مضى الوقت كان المال على الوارث يعني من تركة الميت عيني .

التالي السابق


( قوله : فإن قال إن لم أواف إلخ ) قيد بعدم الموافاة للاحتراز عما في البزازية : كفل بنفسه على أنه متى طالبه سلمه ، فإن لم يسلمه فعليه ما عليه ومات المطلوب وطالبه بالتسليم وعجز لا يلزمه المال ; لأن المطالبة بالتسليم بعد الموت لا تصح فإذا لم تصح المطالبة لم يتحقق العجز الموجب للزوم المال فلم يجب ا هـ بحر .

( قوله : أي آت ) ومثله إن لم أدفعه إليك أو إن غاب عنك نهر .

( قوله : فهو ) أي القائل وهو من تتمة المقول بالمعنى ; لأنه إنما يقول فأنا ضامن لما عليه أو عندي كما في الخانية وقد مر .

( قوله : لما عليه ) أشار إلى أنه لا يشترط تعيين قدر المال كما يأتي ، وقيد بقوله لما عليه ; لأنه لو قال له فالمال الذي لك على فلان رجل آخر وهو ألف درهم فهو علي ، جاز في قول أبي يوسف .

وقال محمد : الكفالة بالنفس جائزة ، والكفالة بالمال باطلة ; لأنه مخاطرة إذا كان المال على غيره ، وإنما يجوز إذا كان المال عليه استحسانا ، ولو كفل بنفس رجل للطالب [ ص: 295 ] عليه مال فلزم الطالب الكفيل وأخذ منه كفيلا بنفسه على أنه إن لم يواف به فالمال الذي على المكفول به الأول عليه جاز ، وليس هذا كالذي عليه مال ولم يكفل به أحد ، كذا في كافي الحاكم .

( قوله : مع قدرته عليه ) صرح بهذا القيد الزيلعي والشمني في شرح النقاية ، وكذا في البحر : وقال المصنف في المنح إنه قيد لازم ; لأنه إذا عجز لا يلزمه إلا إذا عجز بموت المطلوب أو جنونه ا هـ .

( وقوله : فلو عجز لحبس أو مرض ) أي مثلا فيدخل فيه ما إذا غاب المكفول به ولم يعلم مكانه ، فقد مر التصريح بأن ذلك عجز ، وقد علمت أن شرط ضمان المال عدم الموافاة مع القدرة وحيث صرحوا بأن الغيبة المذكورة عجز عن الموافاة لم يتحقق القدرة ولم يستثنوا من العجز إلا العجز بموت المطلوب أو جنونه ، فدخلت الغيبة المذكورة في العجز .

وأما ما قدمناه عن الخلاصة والبزازية من أن الغيبة المذكورة كالموت فقدمنا أن المراد أنها مثله في سقوط المطالبة في الحال لا من كل وجه على أن ذلك مذكور في كفالة النفس ، والموت هناك مبطل للكفالة بالنفس ومسقط للمطالبة بالكلية وليس هناك كفالة بالمال ، وهنا المراد ثبوت كفالة المال المعلقة على عدم الموافاة مع القدرة ، والموت هنا محقق لكفالة المال ومثبت للضمان ، فإذا جعلت الغيبة المذكورة كالموت بالمعنى المراد فيما مر وهو سقوط المطالبة بالنفس للعجز عن تسليمه لا يلزم منه ثبوت ضمان المال المعلق على عدم الموافاة مع القدرة بل يلزم عدم ثبوته لتحقق العجز وإن جعلت كالموت بالمعنى المراد هنا وهو ثبوت الضمان نافى قولهم مع القدرة وقد علمت أن الغيبة المذكورة عجز مناف للضمان ، وأنهم لم يستثنوا من العجز إلا الموت والجنون ، على أن جعلها كالموت في ثبوت الضمان خلاف ما أراده في البزازية والخلاصة ; لأنهما إنما ذكرا ذلك في كفالة النفس المجردة عن كفالة المال ، وقد صرح أصحاب المتون وغيرهم بأن الغيبة المذكورة مسقطة للمطالبة بالتسليم ، وذلك مناف لثبوت الضمان أي ضمان النفس ، فلا يصح الاستدلال بتلك العبارة على كون الغيبة المذكورة مسقطة للمطالبة بالمال في مسألتنا ، وإنما تسقط المطالبة بالنفس فقط .

وأما المطالبة بالمال فهي حكم الكفالة الأخرى المعلقة على عدم الموافاة مع القدرة ، فإذا وجد ما علقت عليه ثبتت وإلا فلا ، ومع الغيبة المذكورة لم توجد القدرة فلا تثبت المطالبة بالمال كما لا يخفى .

مطلب حادثة الفتوى فإذا علمت ذلك ظهر لك جواب حادثة الفتوى قريبا من كتابتي لهذا المحل ، وهي : رجلان عليهما ديون فكفلهما زيد كفالة مال وكفلهما عند زيد أربعة رجال على أنهم إن لم يوافوه بالمطلوبين عند حلول الأجل فالمال المذكور عليهم ، ثم حل الأجل وأدى زيد إلى أصحاب الديون وطالب الأربعة بالمطلوبين فأحضروا له أحدهما وعجزوا عن إحضار الآخر لكونه سافر إلى بلاد الحرب ولا يدرى مكانه . فأجبت : بأنه لا يلزمهم المال للعجز عن الموافاة بالغيبة المذكورة فعارضني الحاكم الشرعي بعبارة البزازية المارة فأجبته بما حررته ، والله سبحانه أعلم .

( قوله : كما أفاده بقوله إلخ ) أي أفاد بعضه ; لأنه لم يذكر الجنون ، لكن يفهم حكمه من الموت ; لأن المستحق عليه تسليم يكون ذريعة إلى الخصام ولا يتحقق ذلك مع الجنون كالموت .

( قوله : أو مات المطلوب ) يعني بعد الغد كذا في الفتح ، وبهذا يزول إشكال المسألة ، وهو أن شرط الضمان عدم الموافاة مع القدرة ، ولا شك أنه لا قدرة على الموافاة بالمطلوب بعد موته ، فإذا قيد الموت بما بعد الغد يكون قد وجد شرط الضمان قبله ; لأن فرض المسألة عدم الموافاة به غدا كما نبه عليه الشارح بقوله في الصورة المذكورة : أي المقيدة بالغد ، لكن مفاده أنه لو لم يقيد بالغد [ ص: 296 ] لا يثبت الضمان بالموت مع أنه صرح في الفتح أيضا بأنه لا فرق بين المقيد والمطلق فليتأمل .

ثم رأيت في كافي الحاكم قيد بقوله فمات المكفول به قبل الأجل ثم حل الأجل فالمال على الكفيل ، فهذا مخالف لقول الفتح يعني بعد الغد .

( قوله : في الصورتين ) أي صورة عدم الموافاة مع القدرة وصورة موت المطلوب ، وموت المطلوب وإن أبطل الكفالة بالنفس فإنما هو في حق تسليمه إلى الطالب لا في حق المال بحر .

( قوله : بشرط متعارف ) فلو قال إن وافيتك به غدا فعلي ما عليه ثم وافى به لم يلزمه المال ; لأنه شرط لزومه إن أحسن إليه كذا في منية المفتي ، يعني أنه تعليق بشرط غير متعارف نهر ، لكن في جامع الفصولين : ولو قال إن وافيتك به غدا وإلا فعلي المال لم تصح الكفالة ، بخلاف إن لم أوافك به غدا ا هـ .

واستشكل في نور العين الفرق بين المسألتين ; لأن قوله وإلا فعلي المال بمعنى إن لم أوافك به غدا .

قلت : الظاهر أن قوله وإلا زائد ، والصواب إسقاطه بدليل كلام المنية ، وبه يزول الإشكال تدبر .

( قوله : لعدم التنافي ) إذ كل منهما للتوثق ، ولعله يطالبه بحق آخر يدعي به غير المال الذي كفل به معلقا كما في الفتح .

( قوله : لفقد شرط ) وهو بقاء الكفالة بالنفس لزوالها بالإبراء وطولب بالفرق بينه وبين موت المطلوب ، فإنها بالموت زالت أيضا .

وأجيب بأن الإبراء وضع لفسخ الكفالة فتفسخ من كل وجه ، والانفساخ بالموت إنما هو لضرورة العجز عن التسليم المقيد فيقتصر ، إذ لا ضرورة إلى تعديه إلى الكفالة بالمال ، كذا في الفتح نهر .

( قوله : طلب وارثه ) أي طلب وارثه من الكفيل إحضار المكفول به في الوقت وإن مضى الوقت طلب منه المال .

( قوله : طولب وارثه ) أي بإحضار المكفول به في الوقت وبالماء بعده .

( قوله : فإن دفعه ) تفريع على قوله : ولو مات الكفيل إلخ




الخدمات العلمية