الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
8 - " آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر " ؛ وكيع في الغرر؛ ابن مردويه في التفسير؛ (خط)؛ عن ابن عباس ؛ (ض).

[ ص: 45 ]

التالي السابق


[ ص: 45 ] (آخر أربعاء) ؛ بالمد؛ وكسر الموحدة؛ على الأشهر؛ قال في المصباح: ولا نظير له في المفردات؛ وإنما يأتي وزنه في الجموع؛ وبعض بني أسد يفتح الباء؛ والضم لغة قليلة؛ انتهى؛ وبه عرف أن من تعقب النووي والرضي؛ في قولهما: إنه مثلث الباء؛ فقد وهم؛ وسمي " أربعاء" ؛ لأن الرابع واحد من أربعة؛ وهو رابع الأيام من " الأحد" ؛ الذي هو أول الأسبوع؛ على الأرجح؛ أشار إليه الراغب ؛ قال: ويسمى في الجاهلية: " دبار" ؛ لتشاؤمهم به؛ و" الدبار" : الهلاك؛ قال: والألف فيه وفي " الثلاثاء" ؛ بدل من الهاء؛ نحو: " حسن" ؛ و" حسنة" ؛ و" حسناء" ؛ فخص اللفظ باليوم؛ (في الشهر) ؛ لفظ رواية الخطيب: " من الشهر" ؛ و" الشهر" ؛ من " الشهرة" ؛ يقال: " أشهر الشهر" ؛ إذا طلع هلاله؛ و" أشهرنا" ؛ دخلنا في الشهر؛ سمي به لشهرته وظهوره؛ قال الراغب : " الشهر" : مدة مشهورة بإهلال الهلال؛ أو باعتبار جزء من اثني عشر جزءا من دوران الشمس من نقطة إلى تلك النقطة؛ وقال الإمام الرازي كالحكماء: هو عبارة عن حركة القمر من نقطة معينة من فلكه الخاص به؛ إلى أن يعود إلى تلك النقطة بعينها؛ (يوم نحس) ؛ بالإضافة؛ على الأجود؛ أي: شؤم؛ وبلاء؛ (مستمر) ؛ مطرد شؤمه؛ أو دائم الشؤم؛ أو مستحكمه؛ وروي: " يوم نحس" ؛ بالرفع؛ والتنوين فيهما؛ و" مستمر" ؛ نعت لـ " نحس" ؛ أو لـ " يوم" ؛ أو عطف بيان؛ أو بدل؛ و" اليوم" ؛ لغة: عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها من الزمن؛ وشرعا: ما بين طلوع الفجر الثاني؛ والغروب؛ قال محقق: وفاؤه ياء؛ وعينه واو؛ وقال في البحر: وليس قوله: " نحس" ؛ على جهة الطيرة؛ وكيف يريد ذلك والأيام كلها لله؟! وقد جاء في تفضيل بعض الأيام على بعض أخبار كثيرة؛ وهو من الفأل الذي كان يحبه؛ وأما الطيرة فيكرهها؛ وليست من الدين؛ بل من فعل الجاهلية؛ وقول الكهان والمنجمين؛ فإنهم يقولون: " يوم الأربعاء يوم عطارد؛ وعطارد نحس مع النحوس؛ سعد مع السعود" ؛ وقولهم خارج عن الدين؛ ويجوز كون ذكر " الأربعاء نحس" ؛ على طريق التخويف والتحذير؛ أي: احذروا ذلك اليوم؛ لما نزل فيه من العذاب؛ وكان فيه من الهلاك؛ وجددوا لله توبة؛ خوفا أن يلحقكم فيه بؤس كما وقع لمن قبلكم؛ وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى مخيلة فزع إلى الصلاة؛ حتى إذا نزل المطر سري عنه؛ ويقول: " ما يؤمنني أن يكون فيها عذاب كما وقع لبعض الأمم السابقة؟!" ؛ فكان يحذر أمته من مثل ما قال أولئك: هذا عارض ممطرنا ؛ فأتاهم بخلاف ما ظنوا؛ قال (تعالى): بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ؛ وكما قال حين أتى الحجر: " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين" ؛ وكما رغب في يوم عاشوراء؛ لما جعل الله فيه من نجاة موسى وبني إسرائيل؛ من فرعون؛ حذر من يوم الأربعاء لما كان فيه؛ انتهى.

وقال السهيلي: نحوسته على من تشاءم وتطير؛ بأن كان عادته التطير؛ وترك الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في تركه؛ وتلك صفة من قل توكله؛ فذلك الذي تضره نحوسته في تصرفه فيه؛ وقال بعضهم: التطير مكروه كراهة شرعية؛ إلا أن الشرع أباح لمن أصابه في آخر أربعاء شيء من نحو جائحة؛ أن يدع التصرف فيه؛ لا على جهة الطيرة؛ واعتقاد أنه يضره؛ أو يصيبه فيه فقر؛ أو بؤس؛ بل على جهة اعتقاد إباحة الإمساك فيه؛ لما كرهته النفس؛ لا ابتغاء التطير؛ ولكن إثباتا للرخصة في التوقي فيه؛ لمن شاء؛ مع وجوب اعتقاد أن شيئا لا يضر شيئا؛ وقال الحليمي: علمنا ببيان الشريعة أن من الأيام نحسا؛ والذي يقابل النحس: السعد؛ فإذا ثبت أن بعض الأيام نحس؛ ثبت أن بعضها سعد ؛ والأيام في هذا كالأشخاص؛ منها مسعودة؛ ومنها منحوسة؛ ومن الناس شقي؛ وسعيد ؛ فإذا أضاف أحد إلى الأيام؛ أو الكواكب؛ أنها تسعد باختيارها أوقاتا؛ أو أشخاصا؛ أو تنحسها؛ فذلك باطل؛ وإن قال: إن الكواكب طبائع وأمزجة مختلفة؛ وتلك تتغير منها باتصال بعضها ببعض؛ وانفصال بعضها عن بعض؛ فطرة فطرها الله (تعالى) عليها؛ تتأدى بتوسط النيرين إلى الأرض؛ وما فيها؛ فأي شيء منها كان هو المتأدي إلى الأجسام الأرضية؛ كانت الآثار التي تحدث فيها عنه بحسبها؛ فقد يكون منها ما هو سبب للاغتنام ما هو سبب للصحة والسلامة؛ وما هو سبب لحسن الخلق وبذل المعروف والإنصاف والرغبة في الخير؛ وما هو سبب للقبائح والظلم والإقدام على [ ص: 46 ] الشر؛ فهذا يكون؛ لكنه بفعل الله وحده؛ انتهى.

وأخرج الخطيب في التاريخ؛ في ترجمة ابن مجاشع المدائني؛ أن عليا - كرم الله وجهه - كره أن يتزوج الرجل أو يسافر في المحاق؛ أو إذا نزل القمر العقرب؛ قال: و" المحاق" : إذا بقي من الشهر يوم أو يومان؛ وفي الفردوس عن عائشة - رضي الله (تعالى) عنها - مرفوعا: " لولا أن تكره أمتي؛ لأمرتها ألا يسافروا يوم الأربعاء؛ وأحب الأيام إلي الشخوص فيها يوم الخميس" ؛ وبيض ولده لسنده؛ وأما حمل الحديث على الأربعاء الذي أرسل فيه الريح على عاد بخصوصه؛ فمناف للسياق؛ مع أنه لا يلزم من تعذيب قوم فيه كونه نحسا على غيرهم؛ وحمله على أنه نحس على المفسدين لا المصلحين هلهل بالمرة؛ إذ لا اختصاص للأربعاء به؛ وأخرج أبو يعلى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وابن عدي ؛ وتمام؛ في فوائده؛ عن أبي سعيد - رضي الله (تعالى) عنه - مرفوعا: " يوم السبت يوم مكر وخديعة؛ ويوم الأحد يوم غرس وبناء؛ ويوم الاثنين يوم سفر وطلب رزق؛ ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس؛ ويوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء ؛ ويوم الخميس يوم طلب الحوائج والدخول على السلاطين؛ ويوم الجمعة يوم خطبة ونكاح" ؛ قال السخاوي : وسنده ضعيف؛ وذكر الزمخشري أن يزيد قال لأخيه: اخرج معي في حاجة؛ فقال: هو الأربعاء؛ قال: فيه ولد يونس؛ قال: لا جرم قد بانت به بركته في اتساع موضعه؛ وحسن كسوته؛ حتى خلصه الله؛ قال: وفيه ولد يوسف؛ قال: فما أحسن ما فعل به إخوته حتى طال حبسه وغربته! قال: وفيه نصر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب؛ قال: أجل؛ ولكن بعد أن زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر؛ وفي بعض الآثار النهي عن قص الأظافر يوم الأربعاء؛ وأنه يورث البرص؛ قال في المطامح: وأخبر ثقة من أصحابنا عن ابن الحاج - وكان من العلماء المتقين - إنه هم بقص أظافره يوم الأربعاء فتذاكر الحديث الوارد في كراهته؛ فتركه؛ ثم رأى أنها سنة حاضرة؛ فقصها؛ فلحقه برص؛ فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نومه؛ فقال له: " ألم تسمع نهيي عن ذلك؟" ؛ فقال: يا رسول الله لم يصح عندي الحديث عنك؛ قال: " يكفيك أن تسمع" ؛ ثم مسح بيده على بدنه؛ فزال البرص جميعا؛ قال ابن الحاج: فجددت مع الله - سبحانه وتعالى - توبة ألا أخالف ما سمعت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبدا؛ والحاصل أن توقي يوم الأربعاء على جهة الطيرة وظن اعتقاد المنجمين؛ حرام شديد التحريم؛ إذ الأيام كلها لله (تعالى)؛ لا تضر؛ ولا تنفع بذاتها؛ وبدون ذلك لا ضير؛ ولا محذور؛ ومن تطير حاقت به نحوسته؛ ومن أيقن بأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله؛ لم يؤثر فيه شيء من ذلك؛ قال:


تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الشرور



وفي حديث رواه ابن ماجه ؛ عن ابن عمر ؛ مرفوعا؛ وخرجه الحاكم من طريقين آخرين: " لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء" ؛ وكره بعضهم العيادة يوم الأربعاء؛ وعليه قيل: لم يؤت في الأربعاء مريض إلا دفناه في الخميس؛ وفي منهاج الحليمي وشعب البيهقي أن الدعاء يستجاب يوم الأربعاء بعد الزوال؛ وذكر برهان الإسلام في تعليم المتعلم عن صاحب الهداية أن ما بدئ شيء يوم الأربعاء إلا وتم؛ فلذلك كان جمع من الشيوخ يتحرون ابتداء الجلوس للتدريس فيه؛ وذلك لأن العلم نور؛ فبدايته يوم خلق النور فيه تناسب معنى على التمام؛ واستحب بعضهم غرس الأشجار فيه؛ لخبر ابن حبان والديلمي عن جابر مرفوعا: " من غرس يوم الأربعاء فقال: سبحان الباعث الوارث؛ أتته بأكلها" ؛ قالوا: ولما أرسل ملك الروم كتابه إلى المعتصم يتهدده؛ كتب على ظهر الجواب: ما تراه؛ لا ما تسمعه؛ وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار؛ وقام فخرج من فوره في وقته يوم الأربعاء؛ ولم يدخل بيته؛ فمنعه المنجمون؛ وقالوا: الطالع نحس؛ فقال: عليهم؛ لا علينا؛ وسار فيه؛ فأسر ستين ألفا؛ وقتل ستين ألفا؛ وكانت وقعة أعز الله فيها الإسلام وأهله؛ قال الحافظ ابن حجر: غضب السلطان على الكمال البارزي؛ كاتم السر؛ ثم رضي عنه وخلع عليه يوم الأربعاء رابع عشر ربيع الأول سنة أربع وأربعين وثمانمائة؛ وركب في موكب لم ير مثله؛ فاجتمع فيه خمس أربعات والثمانمائة تشتمل على أربعمائتين؛ انتهى.

واعلم أنهم كما كانوا ينفرون من يوم الأربعاء؛ كانوا ينفرون من يوم الأحد؛ قال الزمخشري : صبح ثمود العذاب يوم الأحد؛ قال: وفي الأثر: " نعوذ بالله من يوم الأحد؛ فإن له حدا كحد السيف" ؛ وكتب يزيد إلى عبيد الله بن زياد أن يوجه عبد الله بن حازم إلى خراسان لمعونة مسلم بن زياد ؛ فقال عبيد الله : أخرجوه يوم الأحد؛ إذا ضرب الناقوس؛ حتى لا يرجع للأبد؛ فأحس ابن حازم؛ فتعلل حتى لم يخرج إلا حتى زاغت الشمس؛ وقال: قولوا له: ذهب حد الأحد؛ وكما ورد في يوم الأربعاء النحوسة [ ص: 47 ] ورد في الثلاثاء أنه مكروه؛ ففي الفردوس من حديث ابن مسعود - رضي الله (تعالى) عنه -: " خلق الله الأمراض يوم الثلاثاء؛ وفيه أنزل إبليس إلى الأرض؛ وفيه خلق الله جهنم؛ وفيه سلط الله ملك الموت على أرواح بني آدم؛ وفيه قتل قابيل هابيل؛ وفيه توفي موسى وهارون؛ وفيه ابتلي أيوب" ؛ الحديث بطوله؛ وفي ترجمة العلم للبلقيني؛ عن بعضهم؛ أن من المجرب الذي لم يخطئ قط أنه متى كان اليوم الرابع عشر من الشهر القمري يوم الأحد؛ وفعل فيه شيء لم يتم؛ وكذا للسفر وغيره؛ وأن ذلك وقع للناصر فرج؛ وغيره؛ وقد أخر بعضهم السفر في أول السنة؛ وقال: إن سافرت في المحرم فجدير أن أحرم؛ أو في صفر خشيت على يدي أن تصفر؛ فأخره إلى ربيع؛ فسافر؛ فمرض؛ ولم يظفر بطائل؛ فقال: ظننته ربيع الرياض؛ فإذا هو ربيع الأمراض؛ وفي المثل السائر: " لا تعاد الأيام فتعاديك" ؛ قال:


ومن غالب الأيام فاعلم بأنه ... سينكص عنها لاهيا غير غالب



(فائدة) : وقفت على أبيات بخط الحافظ الدمياطي؛ وقال: إنها تعزى لعلي - رضي الله (تعالى) عنه - وهي:


فنعم اليوم السبت حقا ... لصيد إن أردت بلا امتراء


وفي الأحد البناء لأن فيه ... تبدى الله في خلق السماء


وفي الاثنين إن سافرت فيه ... سترجع بالنجاح وبالثراء


وإن ترد الحجامة في الثلاثا ... ففي ساعاته هرق الدماء


وإن شرب امرؤ يوما دواء ... فنعم اليوم يوم الأربعاء


وفي يوم الخميس قضاء حاج ... فإن الله يأذن بالقضاء


وفي الجمعات تزويج وعرس ... ولذات الرجال مع النساء


وهذا العلم لا يدريه إلا ... نبي أو وصي الأنبياء



( وكيع ) ؛ أي: القاضي أبو بكر محمد بن الخلف؛ المعروف بـ " وكيع " ؛ بفتح الواو؛ وكسر الكاف؛ وعين مهملة؛ (في الغرر) ؛ أي: في كتاب " الغرر من الأخبار" ؛ ( وابن مردويه ) ؛ أبو بكر أحمد بن موسى؛ (في التفسير) ؛ المسند؛ من عدة طرق؛ عن ابن عباس وعن عائشة ؛ وعن علي؛ وعن أنس ؛ وغيرهم؛ (خط) ؛ في ترجمة ابن الوزير صاحب ديوان المهدي؛ (عن ابن عباس ) ؛ وفيه سلمة بن الصلت؛ قال أبو حاتم : متروك؛ وجزم ابن الجوزي بوضعه؛ وحكاه في الكبير؛ ولم يتعقبه؛ وقال ابن رجب: حديث لا يصح؛ ورواه الطبراني من طريق آخر عن ابن عباس ؛ موقوفا؛ قال السخاوي : وطرقه كلها واهية؛ وروى الطبراني بسند ضعيف: " يوم الأربعاء يوم نحس مستمر" ؛ والحديث المشروح يفيده.



الخدمات العلمية