الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : ثم نشأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قريش على أحسن هدي وطريقة ، وأشرف خلق وطبيعة ، وأصدق لسان ولهجة ، وكانت خديجة بنت خويلد ذات شرف ويسار ، وكانت لها متاجر ومضاربات ، فلما عرفت أمانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدق لهجته أبضعته مالا يتجر لها به إلى الشام مضاربا ، وأنفذت معه مولاها " ميسرة " ليخدمه في طريقه ، فنزل ذات يوم تحت صومعة راهب ، فرأى الراهب من ظهور كرامات الله ما علم ، أنها لا تكون إلا لنبي منزل ، وقال لميسرة : من هذا الرجل ؟ فقال : رجل من قريش من أهل الحرم . فقال : إنه نبي : وكان ميسرة يراه إذا ركب تظله غمامة تقيه حر الشمس ، فلما قدم على " خديجة " قص ميسرة عليها حديث الراهب ، وما شاهده من ظل الغمامة ، وتضاعف لها ربح التجارة ، فكانت هذه بشرى ثانية بنبوته ، فرغبت خديجة في نكاحه ، وكان قد خطبها أشراف قريش ، فامتنعت ، وسفر بينهما في النكاح " ميسرة " .

                                                                                                                                            وقيل : مولاة مولدة [ من مولدات مكة ] . وخافت امتناع أبيها عليه : لفقره ، فعقرت له ذبيحة وألبسته حبرة ، بطيب وعقير ، وسقته خمرا حتى سكر ، وحضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه عمه حمزة بن عبد المطلب ، واختلف في حضور أبي طالب معه ، وخطبها من أبيها فأجابه ، وزوجه بها ، وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وخديجة ابنة أربعين سنة ، ودخل بها من ليلته فلما أصبح خويلد وصحا ، رأى آثار ما عليه فقال : ما هذا العقير والعبير والحبير ؟ قيل له : زوجت خديجة بمحمد . قال : ما فعلت : قيل له : قبح بك هذا وقد دخل بها ، فرضي ، ولأجل ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ظهور [ ص: 6 ] الإسلام : لا يرفع إلي نكاح نشوان إلا أجزته ، ثم إن خديجة كفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمور دنياه ، فكان ذلك من أسباب اللطف ، وولدت له جميع أولاده إلا " إبراهيم " فكان له منها من البنين " القاسم " وبه كان يكنى ، والطاهر ، والطيب ، ومن البنات " زينب " و " رقية " و " أم كلثوم " و " فاطمة " ، فمات البنون قبل النبوة ، وعاش البنات بعدها ، ثم إن قريشا تشاورت في هدم الكعبة وبنائها ؛ لقصر سمكها وكان فوق القامة ، وسعة حيطانها ، وأرادوا تعليتها ، وخافوا من الإقدام على هدمها ، وكان يظهر فيها حية يخاف الناس منها ، فعلت ذات يوم على جدار الكعبة ، فسقط طائر فاختطفها ، فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا ، وكان البحر قد ألقى سفينة على ساحل " جدة " لرجل من تجار الروم ، فهدموا الكعبة ، وبنوها وأسقفوها بخشب السفينة ، وذلك بعد عام الفجار بخمس عشرة سنة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن خمس وثلاثين سنة ، فلما أرادوا وضع الحجر في الركن ، تنازعت فيه قبائل قريش ، وطلبت كل قبيلة أن تتولى وضعه ، فقال أبو أمية بن المغيرة ، وكان أسن قريش كلها حين خاف أن يقتتلوا عليه : يا معشر قريش ، تقاضوا إلى أول من يدخل من باب هذا المسجد ، فكان أول داخل عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : هذا " محمد " وهو الأمين وكان يسمى قبل النبوة " الأمين " لأمانته وعفته ، وصدقه ، وقالوا : قد رضينا به ، فلما وصل إليهم أخبروه فقال : ائتوني ثوبا ، فأتوه بثوب فأخذ الحجر ووضعه فيه بيده ، وقال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ، وارفعوه جميعا ففعلوا ، فلما بلغ الحجر إلى موضعه وضعه فيه بيده ، فكان هذا الفعل منهم ووقوع الاختيار عليه من بينهم من الأمارات ما يحدده الله تعالى به من دينه ، وشواهد ما يؤتيه من نبوته .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية