الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (57) قوله : لا تحسبن : قرأ العامة "لا تحسبن" بتاء الخطاب. والفاعل ضمير المخاطب أي: لا تحسبن أيها المخاطب. ويمتنع أو يبعد جعله للرسول عليه السلام; لأن [669/ب] مثل هذا الحسبان لا يتصور منه حتى ينهى عنه. وقرأ حمزة وابن عامر "لا يحسبن" بياء الغيبة وهي قراءة حسنة واضحة. فإن الفاعل فيها مضمر يعود على ما دل السياق عليه أي: لا يحسبن حاسب - أو أحد- وإما على الرسول لتقدم ذكره. ولكنه ضعيف للمعنى المتقدم خلافا لمن لحن قارئ هذه القراءة كأبي حاتم وأبي جعفر [ ص: 436 ] والفراء. قال النحاس: "ما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يلحن قراءة حمزة، فمنهم من يقول: هي لحن لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد لـ "يحسبن".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفراء: "هو ضعيف" وأجازه على حذف المفعول الثاني. التقدير: "لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين" قلت: وسبب تلحينهم هذه القراءة أنهم اعتقدوا أن "الذين" فاعل، ولم يكن في اللفظ إلا مفعول واحد وهو "معجزين"، فلذلك قالوا ما قالوا. والجواب عن ذلك من وجوه أحدها: أن الفاعل مضمر يعود على ما تقدم، أو على ما يفهم من السياق، كما سبق تحريره. الثاني: أن المفعول الأول محذوف تقديره: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين. إلا أن حذف أحد المفعولين ضعيف عند البصريين. ومنه قول عنترة:


                                                                                                                                                                                                                                      3466 - ولقد نزلت فلا تظني غيره مني بمنزلة المحب المكرم



                                                                                                                                                                                                                                      أي: لا تظني غيره واقعا. ولما نحا الزمخشري إلى هذا الوجه قال: "وأن يكون الأصل: لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول. وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين [ ص: 437 ] لما كانت لشيء واحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث" فقدر المفعول الأول ضميرا متصلا. قال الشيخ: "وقد رددنا هذا التخريج في أواخر آل عمران في قوله: "لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا" في قراءة من قرأه بالغيبة، وجعل الفاعل "الذين يفرحون". وملخصه: أن هذا ليس من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يتقدر "لا يحسبنهم" إذ لا يجوز: "ظنه زيد قائما" على رفع "زيد" بـ "ظنه" قلت: وقد تقدم في الموضع المذكور رد هذا الرد فعليك بالالتفات إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن المفعولين هما قوله: "معجزين في الأرض" قاله الكوفيون. ولما نحا إليه الزمخشري قال: "والمعنى: لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا هم في مثل ذلك. وهذا معنى قوي جيد". قلت: قيل: هو خطأ; لأن الظاهر تعلق في "الأرض" بـ "معجزين" فجعله مفعولا ثانيا كالتهيئة للعمل والقطع عنه، وهو نظير: "ظننت قائما في الدار".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ومأواهم النار" فيه ثلاثة أوجه. أحدها: أن هذه الجملة عطف على جملة النهي قبلها من غير تأويل ولا إضمار، وهو مذهب سيبويه أعني عطف الجمل بعضها على بعض، وإن اختلفت أنواعها خبرا وطلبا وإنشاء. وقد تقدم تحقيقه في أول هذا الموضوع والدليل عليه. الثاني: أنها معطوفة عليها، ولكن بتأويل جملة النهي بجملة خبرية. والتقدير: الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار. قاله الزمخشري. كأنه يرى تناسب الجمل شرطا في العطف. هذا ظاهر حاله. الثالث: أنها معطوفة على جملة مقدرة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 438 ] قال الجرجاني: "لا يحتمل أن يكون " ومأواهم " متصلا بقوله: "لا تحسبن ذاك" أي: وهذا إيجاب فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله تقديره: لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض بل هم مقهورون، ومأواهم النار".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية