الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (18) قوله : حتى إذا : في المغيا بـ "حتى" وجهان، أحدهما: هو يوزعون; لأنه مضمن معنى: فهم يسيرون ممنوعا بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا. والثاني: أنه محذوف أي: فساروا حتى. وتقدم الكلام في "حتى" الداخلة على "إذا" هل هي حرف ابتداء أو حرف جر؟

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "واد" متعلق بـ " أتوا " وإنما عدي بـ "على" لأن الواقع كذا; لأنهم كانوا محمولين على الريح فهم مستعلون. وقيل: هو من قولهم: أتيت عليه، إذا استقصيته إلى آخره والمعنى: أنهم قطعوا الوادي كله وبلغوا آخره.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 583 ] ووقف القراء كلهم على "واد" دون ياء اتباعا للرسم، ولأنها محذوفة لفظا لالتقاء الساكنين في الوصل، ولأنها قد حذفت حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين نحو: "جابوا الصخر بالواد" فحذفها وقفا - وقد عهد حذفها دون التقاء ساكنين- أولى. إلا الكسائي فإنه وقف بالياء قال: "لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء ساكنين بالوصل، وقد زال فعادت اللام"، واعتذر عن مخالفة الرسم بقوة الأصل.

                                                                                                                                                                                                                                      والنمل اسم جنس معروف، واحده نملة، ويقال: نملة ونمل بضم النون وسكون الميم، ونملة ونمل بضمهما ونملة بالفتح والضم، بوزن سمرة، ونمل بوزن رجل. واشتقاقه من التنمل لكثرة حركته. ومنه قيل للواشي: المنمل، يقال: أنمل بين القوم ينمل أي: وشى، ونم لكثرة تردده وحركته في ذلك، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      3545 - ولست بذي نيرب فيهم ولا منمش فيهم منمل



                                                                                                                                                                                                                                      ويقال أيضا: نمل ينمل فهو نمل ونمال. وتنمل القوم: تفرقوا للجمع تفرق النمل. وفي المثل: "أجمع من نملة". والنملة أيضا: فرجة تخرج في الجنب تشبيها بها في الهيئة، والنملة أيضا: شق في الحافر، ومنه: فرس منمول القوائم. والأنملة طرف الإصبع من ذلك لدقتها وسرعة حركتها. والجمع: أنامل.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 584 ] قوله: "قالت نملة" هذه النملة هنا مؤنثة حقيقية بدليل لحاق علامة التأنيث فعلها; لأن نملة يطلق على الذكر وعلى الأنثى، فإذا أريد تمييز ذلك قيل: نملة ذكر ونملة أنثى نحو: حمامة ويمامة. وحكى الزمخشري عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه وقف على قتادة وهو يقول: سلوني. فأمر من سأله عن نملة سليمان: هل كانت ذكرا أو أنثى؟ فلم يجب. فقيل لأبي حنيفة في ذلك؟ فقال: كانت أنثى. واستدل بلحاق العلامة. قال الزمخشري: "وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعهما على المذكر والمؤنث فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم: حمامة ذكر وحمامة أنثى، وهو وهي" انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      إلا أن الشيخ قد رد هذا فقال: "ولحاق التاء في "قالت" لا يدل على أن النملة مؤنث، بل يصح أن يقال في المذكر: "قالت نملة"; لأن "نملة" وإن كانت بالتاء هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث، وما كان كذلك كالنملة والقملة مما بينه في الجمع وبين واحده تاء التأنيث من الحيوان، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث، ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على أنه ذكر أو أنثى; لأن التاء دخلت فيه للفرق لا للدلالة على التأنيث الحقيقي، بل دالة على الواحد من هذا الجنس"، قال: "وكان قتادة بصيرا بالعربية. وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان; إذ علم أن النملة يخبر عنها إخبار المؤنث، وإن كانت تطلق على الأنثى والذكر إذ لا يتميز فيه أحد هذين. ولحاق العلامة لا يدل، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله تعالى" قال: "وأما استنباط تأنيثه من كتاب الله بـ "قالت" ولو كان ذكرا لقيل: قال، فكلام النحاة على خلافه، وأنه لا يخبر عنه إلا إخبار المؤنث سواء كان ذكرا أم أنثى"، قال: "وأما تشبيه الزمخشري [ ص: 585 ] النملة بالحمامة والشاة ففيهما قدر مشترك يتميز فيهما المذكر من المؤنث فيمكن أن يقول: حمامة ذكر وحمامة أنثى فتمييزه بالصفة، وأما تمييزه بـ هو وهي فإنه لا يجوز. لا تقول: هو الحمامة ولا هو الشاة، وأما النملة والقملة فلا يتميز فيه المذكر من المؤنث فلا يجوز في الإخبار إلا التأنيث، وحكمه حكم المؤنث بالتاء من الحيوان نحو: المرأة، أو غير العاقل كالدابة، إلا إن وقع فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه من ذلك، فيجوز أن تلحق العلامة وأن لا تلحقها على ما تقرر في علم العربية" انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      أما ما ذكره ففيه نظر: من حيث إن التأنيث: إما لفظي أو معنوي، واللفظي لا يعتبر في لحاق العلامة البتة، بدليل أنه لا يجوز: "قامت ربعة" وأنت تعني رجلا; ولذلك لا يجوز: قامت طلحة ولا حمزة علمي مذكر، فتعين أن يكون اللحاق إنما هو للتأنيث المعنوي، وإنما تعين لفظ التأنيث والتذكير في باب العدد على معنى خاص أيضا: وهو أنا ننظر إلى ما عاملت العرب ذلك اللفظ به من تذكير أو تأنيث، من غير نظر إلى مدلوله فهناك له هذا الاعتبار، وتحقيقه هنا يخرجنا عن المقصود، وإنما نبهتك على القدر المحتاج إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قوله: "وأما النملة والقملة فلا يتميز" يعني: لا يتوصل لمعرفة الذكر منهما ولا الأنثى بخلاف الحمامة والشاة; فإن الاطلاع على ذلك ممكن فهو أيضا ممنوع. قد يمكن الاطلاع على ذلك، وإن الاطلاع على ذكورية الحمامة والشاة أسهل من الاطلاع على ذكورية النملة والقملة. ومنعه أيضا أن يقال: هو الشاة، وهو الحمامة، ممنوع.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 586 ] وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان النمل ونملة بضم الميم وفتح النون بزنة رجل وسمرة. وسليمان التميمي بضمتين فيهما. وقد تقدم أن ذلك لغات في الواحد والجمع.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لا يحطمنكم" فيه وجهان، أحدهما: أنه نهي. والثاني: أنه جواب للأمر، وإذا كان نهيا ففيه وجهان، أحدهما: أنه نهي مستأنف لا تعلق له بما قبله من حيث الإعراب، وإنما هو نهي للجنود في اللفظ، وفي المعنى للنمل أي: لا تكونوا بحيث يحطمونكم كقولهم: "لا أرينك ههنا". والثاني: أنه بدل من جملة الأمر قبله، وهي ادخلوا. وقد تعرض الزمخشري لذلك فقال: "فإن قلت: لا يحطمنكم ما هو؟ قلت: يحتمل أن يكون جوابا للأمر، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر. والذي جوز أن يكون بدلا أنه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم، فيحطمنكم، على طريقة "لا أرينك ههنا" أرادت: لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاءت بما هو أبلغ. ونحوه "عجبت من نفسي ومن إشفاقها". قال الشيخ: "أما تخريجه على أنه جواب للأمر فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش فإنه مجزوم، مع أنه يحتمل أن يكون استئناف [ ص: 587 ] نهي". قلت: يعني أن الأعمش قرأ "لا يحطمكم" بجزم الميم، دون نون توكيد.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: "وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك، إلا إن كان في شعر، وإذا لم يجز ذلك في جواب الشرط إلا في الشعر فأحرى أن لا يجوز في جواب الأمر إلا في الشعر. وكونه جواب الأمر متنازع فيه على ما قرر في علم النحو. ومثال مجيء النون في جواب الشرط قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      3546 - نبتم نبات الخيزرانة في الثرى     حديثا متى يأتك الخير ينفعا



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      3547 - فمهما تشأ منه فزارة تعطكم     ومهما تشأ منه فزارة تمنعا



                                                                                                                                                                                                                                      قال سيبويه: "وهو قليل في الشعر شبهوه بالنهي حيث كان مجزوما غير واجب" قال: وأما تخريجه على البدل فلا يجوز لأن مدلول [ ص: 588 ] "لا يحطمنكم" مخالف لمدلول "ادخلوا". وأما قوله لأنه بمعنى: لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم فتفسير معنى لا إعراب والبدل من صفة الألفاظ. نعم لو كان اللفظ القرآني: لا تكونوا بحيث لا يحطمنكم لتخيل فيه البدل; لأن الأمر بدخول المساكن نهي عن كونهم بظاهر الأرض. وأما قوله: "إنه أراد لا يحطمنكم جنود سليمان إلى آخره" فيسوغ زيادة الأسماء وهي لا تجوز، بل الظاهر إسناد الحكم إلى سليمان وإلى جنوده. وهو على حذف مضاف أي: خيل سليمان وجنوده، أو نحو ذلك، مما يصح تقديره". انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      أما منعه كونه جواب الأمر من أجل النون فقد سبقه إليه أبو البقاء فقال: "وهو ضعيف; لأن جواب الشرط لا يؤكد بالنون في الاختيار". وأما منعه البدل بما ذكر فلا نسلم تغاير المدلول بالنسبة لما يؤول إليه المعنى. وأما قوله: "فيسوغ زيادة الأسماء" لم يسوغ ذلك، وإنما فسر المعنى. وعلى تقدير ذلك فقد قيل به. وجاء الخطاب في قولها: "ادخلوا" كخطاب العقلاء لما عوملوا معاملتهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبي "ادخلن"، "مساكنكن"، "لا يحطمنكن" بالنون الخفيفة جاء به على الأصل. وقرأ شهر بن حوشب "مسكنكم" بالإفراد. وقرأ حسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضم الياء، وفتح الحاء، [ ص: 589 ] وتشديد الطاء والنون، مضارع حطمه بالتشديد. وعن الحسن أيضا قراءتان: فتح الياء وتشديد الطاء مع سكون الحاء وكسرها. والأصل: لا يحتطمنكم فأدغم. وإسكان الحاء مشكل تقدم نظيره في "لا يهدي" ونحوه. وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وهم لا يشعرون" جملة حالية. والحطم: الكسر. يقال منه: حطمته فحطم ثم استعمل لكل كسر متناه. والحطام: ما تكسر يبسا، وغلب على الأشياء التافهة. والحطم: السائق السريع كأنه يحطم الإبل قال:


                                                                                                                                                                                                                                      3548 - قد لفها الليل بسواق حطم     ليس براعي إبل ولا غنم
                                                                                                                                                                                                                                      ولا بجزار على ظهر وضم      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      والحطمة: من دركات النار. ورجل حطمة: للأكول. تشبيها لبطنه بالنار كقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 590 ]

                                                                                                                                                                                                                                      3549 - كأنما في جوفه تنور      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية