الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            ص - الثالث عشر : النقض ، كما تقدم .

            وفي تمكين المعترض من الدلالة على وجود العلة إذا منع .

            ثالثها : يمكن ما لم يكن حكما شرعيا ; لأنه انتقال .

            ورابعها : ما لم يكن طريق أولى بالقدح .

            قالوا : لو دل المستدل على وجود العلة بدليل موجود في محل النقض [ فنقض المعترض ] ، فمنع وجودها ، فقال المعترض : ينتقض دليلك . لم يسمع ; لأنه انتقل [ ص: 205 ] من نقض العلة إلى نقض دليلها .

            وفيه نظر .

            أما لو قال : يلزمك إما انتقاض علتك ، أو انتقاض دليلها ، كان متجها .

            ولو منع المستدل تخلف الحكم ، ففي تمكين المعترض من الدلالة ، ( ثالثها ) : يمكن ما لم يكن ( طريق أولى ) ، والمختار : لا يجب الاحتراز من النقض .

            وثالثها : إلا في المستثنيات .

            لنا : أنه سئل عن الدليل . وانتفاء المعارض ليس منه .

            وأيضا : فإنه وارد ، وإن احترز اتفاقا .

            وجوابه : ببيان معارض اقتضى نقيض الحكم ، أو خلافه لمصلحة ، كالعرايا وضرب الدية ، أو لدفع مفسدة آكد ، كحل الميتة للمضطر ، فإن كان التعليل بظاهر عام ، حكم بتخصيصه وتقدير [ ص: 206 ] المانع كما تقدم .

            التالي السابق


            ش - الاعتراض الثالث عشر : النقض ، وهو وجود المدعى علة مع تخلف الحكم عنه .

            مثاله : قول الشافعي في مسألة زكاة الحلي : الحلي مال غير نام ، فلا يجب فيه الزكاة ، قياسا على ثياب البذلة .

            فيقول المعترض : هذا منقوض بالحلي الغير المباح ، فإنه مال غير نام مع وجوب الزكاة فيه ، ودفعه إما بمنع وجود العلة في صورة النقض ، وإما بمنع تخلف الحكم فيها .

            فإذا منع المستدل وجود العلة في صورة النقض ، فقد اختلفوا في تمكين المعترض من الدلالة على وجود العلة في صورة النقض على أربعة مذاهب :

            أحدها : أنه يمكن المعترض مطلقا ; لأن المنع إنما يتقرر بالدلالة .

            وثانيها : أنه لا يمكن مطلقا ; لأنه يلزم أن يكون المعترض مستدلا .

            وثالثها : يمكن المعترض في الحكم العقلي ; لأنه يقدح فيه ، [ ص: 207 ] فيحصل فائدة ، ولا يمكن في الحكم الشرعي ; لأن التمكين فيه انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال ، ولا تجد فيه نفعا ; لأنه بعد بيان المعترض وجود العلة في صورة النقض يقول المستدل : يجوز أن يكون تخلف الحكم لوجود مانع أو انتفاء شرط ، فيجب الحمل عليه جمعا بين الدليلين : دليل الاستنباط ودليل التخلف ، فلا تبطل العلة ، بخلاف الحكم العقلي ، فإنه لا يتمشى فيه ذلك .

            ورابعها : يمكن ما لم يكن للمعترض طريق آخر أولى بالقدح من النقض تحقيقا لفائدة المناظرة ، فإن كان له طريق أولى ، فلا يتمكن .

            وقال أهل المناظرة : لو استدل المستدل على وجود العلة في محل التعليل بدليل موجود في محل النقض ، فنقض المعترض العلة ، فمنع المستدل وجود العلة في محل النقض ، فقال المعترض : ينتقض دليلك حينئذ ; لأنه موجود في محل النقض ، والعلة غير موجودة فيه على زعمك ، لم يسمع ; لأن المعترض انتقل من نقض العلة إلى نقض دليل العلة .

            مثاله في قول الحنفي في مسألة تبييت النية : أتى بمسمى الصوم ، فيصح ، كما في محل الوفاق ، واستدل على وجود الصوم بأنه إمساك مع النية ، وهو موجود في محل النزاع .

            [ ص: 208 ] فيقول المعترض : ينتقض العلة فيما إذا نوى بعد الزوال . فيقول المستدل : لا نسلم وجود العلة فيما إذا نوى بعد الزوال . فيقول المعترض : ينتقض دليلك الذي استدللت به على وجود العلة في محل التعليل .

            ثم قال المصنف : وفيه نظر ; لأن المعترض في معرض القدح في العلة ، فتارة يقدح فيها ، وتارة يقدح في دليلها ، والانتقال من القدح في العلة إلى القدح في دليلها جائز ، والانتقال الذي لا يكون جائزا هو الانتقال من الاعتراض إلى الاستدلال .

            قيل : كان القائل بعدم السماع نظر إلى خلاف ما أقر المعترض به أولا ، فإن نقض العلة بدون وجود الوصف في صورة النقض لا يتصور ، ونقض دليل العلة لا يتصور إلا عند عدم الوصف في صورة النقض .

            وفيه نظر ; فإن المعترض إنما نقض دليل العلة بعدم وجود الوصف في صورة النقض على زعم المستدل ، فلا يلزمه خلاف ما أقر به أولا .

            [ ص: 209 ] أما إذا قال المعترض ابتداء : يلزمك إما انتقاض علتك ، أو انتقاض دليل علتك ; لأنك إن اعتقدت وجود العلة في محل النقض ، انتقض علتك ، وإن اعتقدت عدم العلة في محل النقض ، انتقض دليلك ، كان متجها مسموعا ، وإذا منع المستدل تخلف الحكم في صورة النقض ، فقد اختلفوا في تمكين المعترض من الدلالة على تخلف الحكم في صورة النقض على ثلاثة مذاهب :

            أحدها : أنه لا يمكن مطلقا .

            وثانيها : أنه لا يمكن مطلقا .

            وثالثها : يمكن ما لم يكن للمعترض طريق أولى بالقدح من النقض .

            ودلائل المذاهب الثلاثة ما مر ، مثاله قول الشافعي في مسألة الثيب الصغيرة : ثيب ، فلا تجبر كالثيب الكبيرة .

            فيقول المعترض : ينتقض بالثيب المجنونة .

            فيقول المستدل : لا نسلم جواز إجبار الثيب المجنونة . وقد اختلفوا في وجوب احتراز المستدل في دليله عن النقض على [ ص: 210 ] ثلاثة مذاهب :

            أولها المختار : أنه لا يجب الاحتراز من النقض .

            وثانيها : أنه يجب الاحتراز مطلقا ; لقربه من الضبط .

            وثالثها : يجب الاحتراز إلا إذا كان النقض مما ورد بطريق الاستثناء ، فإنه لا يجب الاحتراز حينئذ .

            واحتج المصنف على المذهب المختار بوجهين :

            الأول : أنه يسأل المستدل عن الدليل المعرف للحكم ، وانتفاء المعارض ليس جزءا من الدليل ، فلا يجب عليه ذكره .

            الثاني : أن النقض إن لم يكن حاصلا في نفس الأمر ، فقد تم الدليل بدون التعرض ; لانتفاء المعارض ، وإن كان حاصلا في نفس الأمر ، فقد ورد النقض ، وإن احترز المستدل عنه لفظا بالاتفاق .

            قيل : وفيه نظر ; لأن للخصم أن يقول : لا نسلم أن انتفاء المعارض ليس جزءا من الدليل ; لأن المراد من الدليل : ما يلزم من العلم به العلم أو الظن بالمدلول ، ولا يحصل العلم أو الظن بالمدلول إلا بعد التعرض لانتفاء المعارض .

            ولا نسلم أن النقض إن لم يكن حاصلا في نفس الأمر ، يتم الدليل بدون التعرض لانتفاء المعارض ، فإنه ما لم يذكر المستدل انتفاء النقض ، ولم يقم الدليل عليه ، لم يتم الدليل .

            [ ص: 211 ] وهذا النظر ضعيف ; لأن الظن بالمدلول حاصل بدون التعرض لانتفاء المعارض ، فلا يكون انتفاء المعارض جزءا من الدليل ، ولا يحتاج إلى ذكر انتفاء المعارض حتى يتم الدليل ، وإذا لم يكن دفع النقض بمنع وجود العلة في محل النقض ، وبمنع تخلف الحكم عنها فيه ، فجواب النقض ببيان وجود معارض في محل النقض اقتضى ذكر المعارض نقيض الحكم في محل النقض ، أو خلاف الحكم فيه لمصلحة أولى تفوت تلك المصلحة لولا استثناء ، كما في مسألة العرايا إذا نقض بها علية الطعم في الربويات ، فإن وجود المعارض - وهو الدليل الخاص - اقتضى نقيض حكم الربويات فيها لأجل مصلحة خاصة .

            وكمسألة ضرب الدية على العاقلة إذا نقض بها علية البراءة الموجبة لعدم المؤاخذة ، فإن المصلحة الخاصة بضرب الدية على العاقلة تقتضي خلاف حكم الجنايات فيها ، أو لدفع مفسدة آكد ، كحل الميتة للمضطر إذا نقض بها علية أن النجاسة محرمة ، فإن مفسدة الهلاك أعظم من مفسدة تناول النجاسة ، هذا إذا كانت العلة مستنبطة ، أما إذا كان التعليل بنص ظاهر عام ، حكم بتخصيصه إذا انتقضت العلة ، وتعذر مانع في صورة النقص إن لم يتحقق المانع ، كما تقدم .




            الخدمات العلمية