الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        أدلة القول الثاني: (جواز التبرعات مطلقا للمريض مرض الخوف): استدلوا بما يأتي:

        1- ما ورد في الكتاب والسنة من الحث على الإحسان، كقوله تعالى: وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وقوله: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وقوله: ولا تنسوا الفضل بينكم وقوله تعالى: إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم .

        وجه الاستشهاد: أن الله جل وعلا حث على التبرع والصدقة، ولم يخص بالأمر على ذلك الصحيح دون المريض، بل الأمر شامل لهما، فدل على أن تبرع المريض صحيح ولو زاد عن الثلث، ولا يخرج من هذا العموم إلا ما ورد الدليل عليه كالوصية بأكثر من الثلث، أو التصدق بجميع المال حال المرض، والنهي عن نسيان الفضل يتضمن الأمر ببذل الفضل; لأن النهي عن الشيء أمر بضده، والفضل عام في القليل والكثير، وقوله: [ ص: 265 ] إن المصدقين جمع معرف بأل، فيعم الصحيح والمريض، وحذف المعمول يؤذن بالعموم.

        فإذا اتفق على جواز هبته في الصحة، فيستصحب هذا الإجماع في حال المرض، إلا أن يدل دليل، ولا دليل على ما ذكر.

        (272) 2- ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي زرعة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: "أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر".

        (273) 3- ما رواه أبو داود من طريق أبي إسحاق، عن أبي حبيبة الطائي، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل الذي يعتق عند الموت كمثل الذي يهدي إذا شبع". [ ص: 266 ]

        وجه الاستشهاد: في هذه الأحاديث تفاضل الصدقة، وكون صدقة الصحة خيرا من صدقة المرض، فدل على صحة صدقة المرض وقبولها، لكن صدقة الصحة أفضل، وقوله: "تصدق" دليل أنها تبرع لا وصية.

        قال ابن حجر -رحمه الله-: "تنجيز وفاء الدين، والتصدق في الحياة، وفي الصحة، أفضل منه بعد الموت وفي المرض".

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: أن هذه العمومات خاصة بحال الصحة، أو المرض غير المخوف، أما حالة المرض المخوف فقد أخرجها عن هذه العمومات ما تقدم من أدلة الجمهور.

        الوجه الثاني: أن هذا محمول على المرض غير المخوف.

        أجيب عليه: أنه إذا أطلق المرض دل على العموم، وأيضا قوله: "عند موته" يدل على أنه مرض مخوف، ولهذا أعتق وتصدق. [ ص: 267 ]

        ورد: بما تقدم بأن حالة المرض المخوف خارجة عن هذا العموم، وأن قوله: "عند موته" يراد بها المرض غير المخوف.

        (274) 4- ما رواه البخاري من طريق ابن أبي ذئب، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- "أن رجلا أعتق عبدا له لم يكن له مال غيره، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم".

        وجه الاستشهاد: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رد العبد ولم يخص العتق، فدل على أن سبب المنع أنه لم يبق لورثته شيء، ولو قيل بصحة تبرعه في الثلث لقسمه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أثلاثا، لكنه لم يفعل، فدل ذلك على أن التبرع في مرض الموت ليس كالوصية.

        ونوقش هذا الاستدلال: أنه لم يقسمه أثلاثا; لأن ما سيبقى لا يغني الورثة، فهذا سبب المنع.

        (275) 5- ما رواه ابن حزم من طريق حماد بن سلمة، أنا يونس بن عبيد، عن محمد بن سيرين: "أن امرأة رأت فيما يرى النائم أنها تموت إلى ثلاثة أيام، فأقبلت على ما بقي من القرآن عليها فتعلمته، وشذبت ما لها وهي صحيحة، فلما كان يوم الثالث دخلت على جاراتها، فجعلت تقول: يا فلانة أستودعك الله، وأقرأ عليك السلام، فجعلن يقلن لها: لا تموتين اليوم، لا تموتين اليوم إن شاء الله، فماتت، فسأل زوجها أبا موسى الأشعري عن ذلك؟ فقال له أبو موسى: أي امرأة كانت امرأتك؟ فقال: ما أعلم أحدا كان أحرى منها أن تدخل الجنة إلا الشهيد، ولكنها فعلت ما فعلت وهي [ ص: 268 ] صحيحة، فقال أبو موسى: هي كما تقول فعلت ما فعلت وهي صحيحة، فلم يرده أبو موسى".

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن هذا الأثر دليل للجمهور؛ إذ قول أبي موسى: "فعلت ما فعلت وهي صحيحة" يدل على أن هذا هو أساس الحكم عنده، وأنه أجاز تصرفها لكونها صحيحة; إذ لو كانت مريضة لتغير الحكم، فدل على أن المرض له تأثير في تصرفات المريض.

        6- أن المعتبر في الشخص صحيحا كان أو مريضا أهليته ببقاء عقله ورشده; لأن العقل مناط الأحكام؛ ولهذا صح عند الجميع نكاح المريض وإسلامه وبيعه وشراؤه، فكذلك هباته; إذ المعتبر بقاء العقل.

        يدل لذلك أن المريض مرضا مخوفا متصلا بالموت إذا اختل عقله أنه لا حكم لكلامه ولا تبرعاته، فلم يكن للمرض اعتبار بل للعقل، فكذلك هنا، وهذا هو الأصل فلا يخرج عنه إلا بدليل، ولا دليل.

        ونوقش هذا الاستدلال: أنه لا يسلم لكم ذلك، بل لكون المريض مرضا مخوفا متصلا بالموت بمنزلة من حضره الموت، فألحقت عطاياه بالوصية، كما قال تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية