الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الفصل الثاني: شروط صحة الإبراء، وأثره

        وفيه مبحثان:

        المبحث الأول: شروط صحة الإبراء.

        المبحث الثاني: أثر الإبراء. [ ص: 330 ] [ ص: 331 ]

        المبحث الأول:

        شروط صحة الإبراء

        الشرط الأول: أن يكون المبرئ من أهل التبرع.

        وذلك بأن يكون المبرئ بالغا، عاقلا، حرا، رشيدا، وتقدم ذلك في شروط الهبة، وما يتعلق بهبة الصغير، والمجنون، والعبد، والسفيه.

        جاء في الخرشي على مختصر خليل ما نصه: " . . . بل سائر أبواب التبرعات كذلك، فيشترط في المتبرع أن يكون ممن يصح تبرعه، وفي المتبرع عليه أن يكون أهلا للتملك".

        الشرط الثاني: أن يكون المبرئ عالما بالمبرأ منه.

        إذا كان المبرأ منه مجهولا كما لو أبرأ مدينه من دينه الذي يجهل قدره.

        اختلف الفقهاء -رحمهم الله- في اعتبار هذا الشرط على أقوال:

        القول الأول: عدم اشتراط ذلك مطلقا.

        وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعي في قوله القديم، وهو المذهب عند الحنابلة. [ ص: 332 ]

        القول الثاني: أنه يشترط أن يكون المبرئ عالما بالمبرأ منه.

        وإليه ذهب الشافعية في الجديد، وهو رواية في مذهب الحنابلة.

        القول الثالث: أنه يشترط العلم بالمبرأ منه، إلا ما يتعذر علمه.

        وهذا رواية عند الحنابلة.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        1- ما تقدم من الأدلة على صحة هبة المجهول، فإذا أجاز هذا في الهبة فالإسقاط من باب أولى.

        (286) 2- ما رواه الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة، وفيه قوله: "أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه" (ضعيف) . [ ص: 333 ]

        . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [ ص: 334 ]

        وجه الدلالة: قوله: "ثم ليحلل" فيه الأمر للخصمين بأن يحلل أحدهما صاحبه، والخصومة كانت في مواريث درست لم يكن في الإمكان معرفتها، فدل ذلك على جواز الإبراء من المجهول الذي لا سبيل إلى معرفته.

        الوجه الثاني: أن الحديث واضح الدلالة على أنه فيما تعذر علمه من [ ص: 335 ] المجهولات دون ما لم يتعذر علمه; إذ القضية في مواريث وأشياء قد درست، ومن العادة والعرف بين الناس التسامح عن الأشياء المجهولة المتعذرة معرفتها، والتحلل منها أكثر من تسامحهم عن الأشياء المجهولة التي يمكن الوصول إلى معرفتها.

        وأجيب: بأن كونه فيما يتعذر علمه لا يمنع صحته فيما لا يتعذر علمه من المجهولات; لما تقدم من أدلة الرأي الأول.

        3- أن الإبراء إسقاط حق لا يحتاج فيه إلى التسليم، فلما كان لا يحتاج فيه إلى التسليم امتنع تأثير الجهالة التي تفضي إلى حصول المنازعة والخصومة بين المسلمين، فصح في المجهول كالطلاق والعتاق.

        أدلة القول الثاني: (الاشتراط):

        استدلوا بما يلي:

        1- أن الإبراء تمليك وتمليك المجهولات لا يصح; لأن البراءة متوقفة على الرضا، ولا يعقل مع الجهالة.

        2- قياس الإبراء على البيع والهبة; إذ الإبراء إزالة ملك لا يجوز تعليقه على الشرط، فلم يجز مع الجهالة كالبيع والهبة.

        ونوقش هذان الدليلان: أن الجهالة التي لا يعقل معها الرضا هي الجهالة التي تفضي إلى المنازعة والمخاصمة، وهي غير واردة في الإسقاط؛ لعدم الحاجة إلى التسليم في الإسقاط.

        وأما قياس الإبراء على البيع فهو قياس مع الفارق; لأن الإبراء عقد تبرع [ ص: 336 ] بخلاف عقد البيع فهو عقد معاوضة; إذ هو مبادلة مال بمال فيشترط فيه العلم والتحرير، ولا يصح مع الجهالة، بخلاف عقود التبرعات.

        وأما حجة القول الثالث: فما تقدم من حديث أم سلمة رضي الله عنها.

        وجه الدلالة: أن الخصومة كانت في مواريث قد درست لم يمكن في الإمكان معرفتها، فدل ذلك على جواز الإبراء من المجهول الذي لا تمكن معرفته.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: ضعف الحديث.

        الوجه الثاني: أن كونه فيما يتعذر علمه لا يمنع صحته في المجهول الذي لا يتعذر علمه.

        الترجيح:

        والذي يترجح لي -والله أعلم- هو القول بصحة الإبراء من المجهول مطلقا; لقوة دليل القائلين بالجواز، ومناقشة دليل المخالف، ولأن هذا القول يوافق سماحة الشريعة الإسلامية; إذ هي تدعو إلى المسامحة والعفو.

        قال الكاساني في بدائع الصنائع: "والدليل على جواز الإبراء عن الحقوق المجهولة ما روي أن رجلين اختصما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في مواريث درست ... " إلى أن قال: "وعلى هذا إجماع المسلمين من استحلال معاملاتهم في آخر أعمارهم في سائر الأعصار من غير نكير".

        قلت: [ ص: 337 ] وكلامه يدل على أن المسلمين مجمعون على صحة الإبراء من الحقوق المجهولة، والله أعلم.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية