الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الشرط الثالث: قبول المبرأ للإبراء:

        هذا الشرط للفقهاء فيه قولان:

        القول الأول: أنه لا يشترط القبول من المبرأ.

        وبه قال زفر من الحنفية، وذهب إليه بعض المالكية، والشافعية، والحنابلة، وعند زفر: إن رده المديون صح.

        القول الثاني: أنه يشترط القبول من المبرأ.

        وهو قول الحنفية، والمالكية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة.

        وعند الحنفية: للمديون حق الرد قبل موته.

        وعند المالكية أيضا على اشتراط القبول: يجوز أن يتراخى القبول عن الإيجاب، كما يجوز رجوع الدائن قبل القبول.

        سبب الخلاف:

        سبب الخلاف في اشتراط قبول المبرأ أو عدم اشتراطه: يرجع إلى [ ص: 338 ] الاختلاف حول حقيقة الإبراء هل هو إسقاط أو تمليك؟ فمن قال: إنه إسقاط، قال: لا يشترط القبول من المبرأ، بل يصح الإبراء وإن لم يقبل، وقاسه على الطلاق والعتاق.

        ومن قال: إن الإبراء تمليك، قال: باشتراط قبول المبرأ، فإذا لم يقبل لم يصح الإبراء.

        الأدلة:

        دليل القول الأول:

        استدل لهذا القول: بالقياس على العتق، والطلاق، والعفو عن الشفعة، والقصاص، ونحوها من الإسقاطات التي لا يشترط فيها القبول.

        ونوقش: بأنه يسلم بأن الإبراء إسقاط حق لكن لا يوافق على القول بأنه لا تمليك فيه; لأن الدين مال ثابت للمدين مملوك له في ذمة مدينه، ومن هذا الوجه صار تمليكه، فهو إسقاط من وجه، وتمليك من وجه آخر، وعلى هذا فلا يصح قياسه على العتق والطلاق ونحوها; لأنه قياس مع الفارق; لأنها إسقاطات محضة ليس فيها تمليك.

        أدلة القول الثاني:

        1- أن الإبراء تبرع يفتقر إلى تعيين المتبرع، فافتقر إلى قبوله كالوصية والهبة.

        2- ولأن فيه التزاما منه، فلم يملك من غير قبول كالهبة.

        3- أن الإبراء منة وعفو من المبرئ عن المبرأ، والمنة قد تعظم فيه، وذوو المروءات يضر ذلك بهم، وينقص من قدرهم، لا سيما من السفلة، وقد [ ص: 339 ] يكون المبرأ ليس في حاجة إلى الإبراء; لقدرته على وفاء ديونه بنفسه، فجعل له صاحب الشرع مخرجا من ذلك، حيث شرع له قبول الإبراء أو رده؛ نفيا للضرر الحاصل من المنة الحاصلة من غير أهلها، أو غير حاجة.

        الترجيح:

        الذي يترجح لي: هو القول بعدم اشتراط قبول المبرأ; لما في ذلك من إبراء الذمم الذي يتشوف له الشارع، إلا إذا ترتب على ذلك ضرر له، فلا بد من اشتراط القبول من المبرأ; لأن القول باشتراط قبول المبرأ فيه احترام له ونفي للضرر عنه; لأن الإنسان بطبعه يأنف من معروف الغير، ويرغب في سلامته منه، فإذا اشترطنا قبوله جعلناه في سلامة من المنة ومعروف الغير. والله أعلم.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية