الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الخامسة: توقف نفاذ الثلث على الموت:

        تقدم أن المريض مرض الموت له أن يتبرع بالثلث فأقل لغير وارث.

        فإذا تبرع بما أذن له من الثلث فهل ينفذ فورا، أو يتوقف نفاذه على الموت؟

        اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

        القول الأول: يثبت الملك في العطية من حينها، لكنه ملك مراعى؛ لعدم العلم هل يموت من مرضه أو يصح، وهل يستفيد مالا، أو يتلف شيء من ماله، وعلى هذا فلا يسلم الموهوب إلى الموهوب له يتصرف فيه كيف شاء، ولا يرسل العبد المعتق أو المحابى يذهب حيث شاء، بل يوقف أمر التبرعات على وجه يتمكن الوارث من ردها بعد الموت إذا شاء.

        وبه قال الشافعية، والحنابلة.

        وحجته:

        1- حديث سعد -رضي الله عنه- وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس".

        وجه الدلالة: أن ملك الهبة إذا كان مراعى كما ذكر، فإن الواهب يترك ورثته أغنياء، بحيث لو هلك ماله كله إلا الهبة لم ينفذ من هذه الهبة إلا [ ص: 280 ] ثلثها، وثلثاها للورثة فيكون ترك ورثته أغنياء، بخلاف ما إذا نفذت فورا وهلك ماله، فلا يبقى لورثته شيء، فلم يتركهم أغنياء.

        2- أن المعتبر في الثلث وقت الموت فقد يكتسب مالا قبله، أو يذهب شيئا من ماله، والثلث يزيد بما كسب وينقص بما خرج من ماله، فيوقف أمر تبرعاته إلى موته.

        القول الثاني: التفريق بين أن يكون ماله مأمونا وهو الأرض، وما اتصل بها من بناء وشجر، أو غير مأمون كالحيوان والعروض، فإن كان مأمونا فأعتق أو تصدق، أو نحو ذلك لم يوقف، ونفذ ما حمله على الثلث عاجلا، ووقف منه ما زاد، فإن صح نفذ الجميع، وإن مات لم يمض غير ما نفذ.

        وإن كان غير مأمون وقف كله، فإن مات قوم بعد موته ويخرج كله من ثلثه إن وسعه كله، وإلا أخرج ما وسعه الثلث فقط، وإن صح ولم يمت مضى جميع تبرعه.

        وهو مذهب المالكية.

        وحجته: الاحتياط للوارث.

        ونوقش: بعدم التسليم; لما يلي:

        أولا: أنه ليس فيه احتياط للوارث إذا كان المال غير مأمون.

        ثانيا: أنه ليس فيه احتياط للموهوب له.

        ثالثا: أنه لا دليل على هذا التقسيم.

        القول الثالث: أنه ينفذ فورا، وتسلم العين للمتبرع له، وإذا توفي [ ص: 281 ] المريض وتبين أن الموهوب له لا يستحق الهبة، فإن التصرف ينقض، وترد العين إلى من يستحقها من ورثة أو غرماء.

        وبه قال الحنفية، وأبو يعلى.

        واستثنى الحنفية التصرف الذي لا يقبل الفسخ، فإنه يجعل في حكم المعلق في الموت، وذلك كالعتق.

        وحجته:

        1- أن اتصال المرض بالموت أمر مشكوك فيه، وإثبات الحجر لا يكون بأمر مشكوك فيه; لأن الشك لا يقوى على رفع الأصل.

        2- أن الأصل فورية التسليم; لثبوت الملك بالعقد.

        ونوقش: باستثناء مسألتنا ونحوها.

        الترجيح:

        الراجح -والله أعلم- ما ذهب إليه أهل القول الأول; لقوة دليلهم في مقابلة مناقشة دليل القولين الآخرين، ولما فيه من الاحتياط للوارث والموهوب له.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية