الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        أدلة القول الثاني:

        1- قول أبي بكر -رضي الله عنه- لعائشة -رضي الله عنها- لما حضرته الوفاة: "إني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا، فلو كنت جددتيه كان ذلك، وإنما هو اليوم مال وارث".

        وجه الدلالة: أن أبا بكر -رضي الله عنه- إنما رجع فيما نحل لابنته لكونها لم تحزه حتى حضرته الوفاة، والهبة إنما تلزم بالقبض، وفي هذه الحال حتى لو قبضته كان حكمه حكم الوصية؛ ولذا اختار الرجوع فيه، وبين لعائشة -رضي الله عنها- أنها لو كانت حازته قبل ذلك لكان ملكا لها، ولو كان يرى أن للورثة أن يرجعوا فيما وهبه لها لما قال ذلك، فدل على أن ما قبض الولد في صحة الوالد يثبت للولد، ولا يحق لبقية الورثة أن يرجعوا فيه. والله أعلم.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن قول أبي بكر -رضي الله عنه- إنما هو في حال غير الحال التي يجوز للورثة أن يرجعوا فيها، ذلك أن أبا بكر -رضي الله عنه- إنما خص عائشة -رضي الله عنها- بهذه الهبة، إما لمعنى فيها يقتضي الاختصاص وهو حاجتها وعجزها عن الكسب والتسبب فيه، مع اختصاصها بفضلها، وكونها أم المؤمنين، زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغير ذلك من فضائلها، أو لأن إخوتها كانوا راضين، أو أراد أن يعطي البقية، ثم أدركه الموت. [ ص: 84 ]

        وإذا كان الأمر كذلك لم يكن فيه ظلم لبقية الورثة يوجب الرجوع في الهبة، أو التسوية بينهم؛ ولذا لو حازته وقبضته قبل مرض موته لكان ملكا لها، ولو كان في ذلك ظلم لبقية الورثة لأمر أبا بكر -رضي الله عنه- بالتسوية، أو الرجوع من أجله ولا بد، ولما يحصل شيء من ذلك دل على ما ذكره.

        2- قول عمر -رضي الله عنه-: "لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد".

        وجه الدلالة: أن عمر -رضي الله عنه- بين أن نحلة الوالد لولده تلزم وتثبت بالحوز، فإذا حازها الولد ثبتت واستقرت له; مما يدل على أنه ليس لبقية الورثة أن يرجعوا فيها بعد موت والدهم.

        ونوقش: أنه يسلم أن الهبة استقرت بالقبض إذا كان القبض شرعيا، أما إذا لم يكن شرعيا كأن يكون فيه ظلم وجور فلا تستقر بالقبض، بل يجب ردها والرجوع فيها.

        3- أن هبة الوالد لولده تلزم بالموت، كما لو كان الموهوب له أجنبيا، فلا يكون للورثة حق الرجوع.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه قياس مع الفارق، فليس للواهب في حياته أن يرجع فيما وهبه للأجنبي، فورثته بعد مماته أولى، بخلاف ما وهب لولده فإن له أن يرجع فيه، بل يجب عليه الرجوع; إذ الأولاد يجب العدل بينهم في الهبة، بخلاف الأجانب، فلا يجب العدل بينهم في الهبة.

        4- أن الهبة لولده تلزم بالموت كما لو انفرد، فلا يكون للورثة حق الرجوع.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه قياس مع الفارق; إذ إن حق الرجوع على [ ص: 85 ] المنفرد لا يجب على الوالد، بل هو فيه بالخيار لعدم الظلم؛ ولذا يسقط بموته، بخلاف ما لو كان له أولاد غير الموهوب له، فإنه يجب عليه الرجوع أو التسوية لرفع الظلم، فإن لم يقم بذلك حتى مات كان لبقية أولاده أن يقوموا مقامه في الرجوع لرفع الظلم.

        5- أن حق الرجوع حق مجرد، والحقوق المجردة لا تورث ابتداء، وإنما تورث تبعا للمال، وبقية الورثة لا يرثون الموهوب، فلا يرثون حق الرجوع.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن حق الرجوع حق مجرد حيث لا يجب الرجوع، أما إذا وجب الرجوع لرفع الظلم عن بقية الأولاد فإن الحق حينئذ ليس حقا مجردا، وإنما هو حق متعلق بالمال; لأن المال في هذه الحالة أشبه ما يكون بالمال الحرام الذي لا يحل لآخذه تناوله، ويجب عليه رده فيكون حق الرجوع حقا موروثا لذلك.

        6- أن حق الرجوع حق متعلق بصفة الأبوة وقد مات، فيسقط هذا الحق.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه لا يسلم بأن حق الرجوع متعلق بصفة الأبوة، وقد زال بالموت; إذ الرجوع لإزالة ظلم بقية الأولاد، وإقامة العدل بينهم، حق متعلق بصفة الأبوة، وإلا لما وجب عليه الرجوع، وإنما يكون حقا متعلقا بصفة الأبوة حيث لا يجب الرجوع كما لو كان الموهوب له منفردا. والله أعلم. [ ص: 86 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية