الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 274 ]

        المسألة الرابعة: هبة المريض مرض الموت فيما زاد عن الثلث إذا لم يكن له وارث:

        إذا تبرع المريض مرض الموت بأزيد من الثلث، ولم يكن له وارث، فللفقهاء في ذلك قولان:

        القول الأول: أنها صحيحة من رأس المال، ولا اعتراض لبيت المال ولا لغيره.

        وهو قول الحنفية، والحنابلة، ذكروه في الوصية، والعطايا في مرض الموت كالوصايا، وهو قول عند المالكية، وأفتى به المتأخرون من الشافعية، وبعض متقدميهم كالماوردي، والقاضي حسين، والمتولي، وذلك لعدم انتظام بيت المال، قال سبط المارديني: "وقد أيسنا من انتظامه إلى أن ينزل السيد المسيح صلى الله عليه وسلم وعلى سائر النبيين" وبه قال عبيدة السلماني، وإسحاق، وشريك.

        وحجته:

        1- حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- وفيه قوله: "إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" الحديث.

        وجه الدلالة: أن المنع من الزيادة على الثلث من أجل الورثة; لقوله: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس". [ ص: 275 ]

        وأيضا: فإن كلمة "إن" نص ظاهر في التعليل.

        كما أنه ظاهر في أن المقصود بالورثة: الورثة الخاصة غير بيت المال، ألا ترى إلى قول سعد: "لا يرثني إلا ابنة لي" وإلى قوله: "ورثتك" بالإضافة للمخاطب، وإلى قوله: "يتكففون الناس" فإن ذلك كله يدل على أن المقصود بالورثة غير بيت المال، وأن بيت المال غير وارث; لأن بيت المال لا يتكفف.

        (276) 2- ما رواه عبد الرزاق من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال لبعض أهل الكوفة: "إنكم من أحرى حي بالكوفة أن يموت أحدكم فلا يدع عصبة ولا رحما، فلا يمنعه إذا كان كذلك أن يضع ماله في الفقراء والمساكين". [ ص: 276 ]

        وجه الدلالة: أن ابن مسعود -رضي الله عنه- يرى المنع لحق الوارث، فإذا لم يكن له وارث كان له الحق في أن يتبرع ولو بماله كله في وجوه البر والخير.

        3- أن حق الورثة تعلق بماله لانعقاد سبب الزوال إليهم وهو استغناؤه عن المال، إلا أن الشرع لم يظهر ذلك في حق الأجانب بقدر الثلث؛ ليتدارك تقصيره.

        4- أن المنع من الزيادة على الثلث إنما هو لحق الورثة، فإذا لم يكن وارث ارتفع المنع.

        القول الثاني: أنها لا تنفذ فيما زاد على الثلث. [ ص: 277 ]

        وهو مذهب المالكية، وهو مذهب الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، وبه قال الأوزاعي، وابن شبرمة، والعنبري.

        وحجته:

        1- حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- "أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، ولم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجزأهم أثلاثا بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا".

        وجه الاستدلال: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يجز تبرعه بما زاد عن الثلث، ولم ينقل أنه راجع الورثة، فدل على منعه مطلقا.

        ويمكن مناقشته: بأنه يحتمل أنه لم يكن له وارث، فرده النبي نظرا لبيت مال المسلمين، أو أن الوارث لا يجيز ذلك ولا يرضاه، وهذا في الغالب.

        2- حديث سعد -رضي الله عنه- وفيه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الثلث والثلث كثير".

        ونوقش: بأن حديث سعد -رضي الله عنه- لا يقتضي بطلان ما زاد على الثلث; لأنه صلى الله عليه وسلم بين علة النهي، وهو أن المنع لحق الورثة حتى يستعينوا بما يتركه من مال عن سؤال الناس، وهذا استدعى عدم جواز التصرف في هذا الحق ما دام صاحبه متمسكا به، فإذا لم يوجد زالت العلة. [ ص: 278 ]

        3- ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم".

        وجه الدلالة: قوله: "بثلث أموالكم" يدل على أنه لا حق لنا في الزائد عليه.

        ونوقش: بعدم ثبوت الحديث.

        4- أن المنع من التبرع بما زاد على الثلث أمر تعبدنا الله به على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- وليس للورثة أن يجيزوا ما أبطله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

        ونوقش: بأنه غير مسلم، فلا يسلم من أن المنع من الوصية للوارث أمر تعبدي; إذ إن أحكم المعاملات شرعها الله لمصالح ومقاصد تعود بالخير والنفع على العباد.

        5- أن له من يعقل عنه -وهو بيت مال المسلمين- فلم تنفذ هبته في أكثر من الثلث; إذ لا مجيز له منهم.

        ونوقش: بعدم التسليم.

        القول الثالث: إن كان السلطان مثل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- فلا يزيد على الثلث، وإلا فله الزيادة.

        وبه قال بعض المالكية.

        وحجته: أن السلطان إذا كان عادلا، فإن بيت المال يكون منتظما يصرف في مصارفه الشرعية.

        والقول الأول هو الراجح; لأن المنع من الزيادة عن الثلث إنما هو لحق الورثة، فإذا لم يكن وارث كان له أن يؤثر بماله من شاء من المسلمين، وبيت [ ص: 279 ] المال ليس وارثا، وإنما هو مرد للأموال التي لا يعلم لها وارث، ولأن هذا هو فهم السلف، كما تقدم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- ولما روى ابن سيرين، عن عبيدة السلماني قال: "إذا مات الشخص وليس عليه عقد ولا حد ولا عصبة يرثونه فإنه يوصي بماله كله حيث شاء" والله تعالى أعلم.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية