الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمقبوض على سوم الشراء مضمون بالعقد ; لأن الأخذ في العقد له حكم العقد على ما عرف في موضعه . قال ( وليس للمستعير أن يؤاجر ما استعاره ; فإن آجره فعطب ضمن ) ; لأن الإعارة دون الإجارة والشيء لا يتضمن ما هو فوقه ، ولإنا لو صححناه لا يصح إلا لازما ; لأنه حينئذ يكون بتسليط من المعير ، وفي وقوعه لازما زيادة ضرر بالمعير لسد باب الاسترداد إلى انقضاء مدة [ ص: 10 ] الإجارة فأبطلناه ، وضمنه حين سلمه ; لأنه إذا لم تتناوله العارية كان غصبا ، وإن شاء المعير ضمن المستأجر ; لأنه قبضه بغير إذن المالك لنفسه ، ثم إن ضمن المستعير لا يرجع على المستأجر ; لأنه ظهر أنه آجر ملك نفسه ، وإن ضمن المستأجر يرجع على المؤاجر إذا لم يعلم أنه كان عارية في يده دفعا لضرر الغرور ، بخلاف ما إذا علم .

قال ( وله أن يعيره إذا كان مما لا يختلف باختلاف المستعمل ) وقال الشافعي : ليس له أن يعيره ; لأنه إباحة المنافع على ما بينا من قبل ، والمباح له لا يملك الإباحة ، وهذا ; لأن المنافع غير قابلة للملك لكونها معدومة ، وإنما جعلناها موجودة في الإجارة للضرورة . وقد اندفعت بالإباحة هاهنا .

ونحن نقول : هو تمليك المنافع على [ ص: 11 ] ما ذكرنا فيملك الإعارة كالموصى له بالخدمة ، والمنافع اعتبرت قابلة للملك في الإجارة فتجعل كذلك في الإعارة دفعا للحاجة ، [ ص: 12 ] وإنما لا تجوز فيما يختلف باختلاف المستعمل دفعا لمزيد الضرر عن المعير ; لأنه رضي باستعماله لا باستعمال غيره . قال العبد الضعيف : وهذا إذا صدرت الإعارة مطلقة . وهي على أربعة أوجه : أحدها أن تكون مطلقة في الوقت والانتفاع وللمستعير فيه أن ينتفع به أي نوع شاء في أي وقت شاء عملا بالإطلاق . والثاني أن تكون مقيدة فيهما وليس له أن يجاوز فيه ما سماه عملا بالتقييد إلا إذا كان خلافا إلى مثل ذلك أو إلى خير منه والحنطة [ ص: 13 ] مثل الحنطة ، والشعير خير من الحنطة إذا كان كيلا . والثالث أن تكون مقيدة في حق الوقت مطلقة في حق الانتفاع . والرابع عكسه وليس له أن يتعدى ما سماه ، فلو استعار دابة ولم يسم شيئا له أن يحمل ويعير غيره للحمل ; لأن الحمل لا يتفاوت .

وله أن يركب ويركب غيره وإن كان الركوب مختلفا ; لأنه لما أطلق فيه فله أن يعين ، حتى لو ركب بنفسه ليس له أن يركب غيره ; لأنه تعين ركوبه ، ولو أركب غيره ليس له أن يركبه حتى لو فعله ضمنه ; لأنه تعين الإركاب .

التالي السابق


( قوله : والمقبوض على سوم الشراء مضمون بالعقد ; لأن الأخذ في العقد له حكم العقد على ما عرف في موضعه ) جواب عن قول الشافعي وصار كالمقبوض على سوم الشراء . قال صاحب العناية : وتقريره أنه ليس بمضمون [ ص: 10 ] بالقبض بل بالعقد ; لأن المأخوذ بالعقد له حكم العقد فصار كالمأخوذ بالعقد وهو يوجب الضمان . ا هـ كلامه . أقول : لا يخفى على ذي فطنة أن تحريره هذا في تقرير الجواب مختل في الظاهر ; لأن الضمير المستتر في فصار راجع إلى المأخوذ بالعقد ، فيصير المعنى : فصار المأخوذ بالعقد كالمأخوذ بالعقد فيلزم تشبيه الشيء بنفسه وهو باطل . ويمكن توجيهه بعناية ، وهي أن يحمل الباء في قوله ; لأن المأخوذ بالعقد على الملابسة ، وفي قوله فصار كالمأخوذ بالعقد على السببية ، فيصير معنى كلامه : لأن المأخوذ بملابسة العقد : أي ما كان متعلقا بالعقد بأن كان من مباديه له حكم نفس العقد فصار ذلك كالمأخوذ بسبب نفس العقد فيئول إلى ما ذكر في الكافي وبعض الشروح من قولهم إن الضمان في المقبوض على سوم الشراء لا يلزم بالقبض نفسه ، ولكن بالقبض بجهة الشراء ، إذ القبض بحقيقة الشراء مضمون بالعقد فكذا بجهته ا هـ .

ثم أقول : لا حاجة في حمل كلام المصنف هاهنا إلى ما ارتكبه صاحب العناية من التحرير الركيك المشعر بالاختلال كما عرفت ، بل له محملان صحيحان سالمان عن شائبة الخلل : أحدهما أن يكون معنى قوله : لأن الأخذ في العقد له حكم العقد ; لأن الشروع في العقد بالمباشرة لبعض مقدماته له حكم نفس العقد وتمامه ، على أن يكون الأخذ من أخذ فيه بمعنى شرع فيه لا من أخذه .

وثانيهما أن يكون معناه ; لأن الأخذ في العقد : أي المأخوذ لأجل العقد له حكم العقد ، على أن تكون كلمة " في " في قوله في العقد بمعنى اللام كما في قوله تعالى { فذلكن الذي لمتنني فيه } وقوله عليه الصلاة والسلام { إن امرأة دخلت النار في هرة حبستها } على ما صرح به في مغني اللبيب ، فالأخذ حينئذ من أخذه بمعنى تناوله . ثم قال صاحب العناية أخذا من غاية البيان : فإن قيل : سلمنا أن الأخذ في العقد له حكم العقد ولكن لا عقد هاهنا .

أجيب بأن العقد ، وإن كان معدوما حقيقة جعل موجودا تقديرا صيانة لأموال الناس عن الضياع إذ المالك لم يرض بخروج ملكه مجانا ا هـ . أقول : لا يذهب على ذي فطرة سليمة أن السؤال المذكور لا يتوجه هاهنا أصلا ، إذ لا يقتضي أن يكون للأخذ في العقد حكم العقد تحقق العقد ، بل يقتضي عدم تحققه ، إذ عند تحققه يكون الحكم لنفس العقد لا للأخذ فيه فلا معنى لقوله ولكن لا عقد هاهنا .

ثم إن الجواب المزبور منظور فيه ; لأنه وإن كان في جعل العقد موجودا تقديرا صيانة لمال البائع عن الضياع لكن فيه تضييع لمال المشتري ، إذ قد يكون هلاك المقبوض على سوم الشراء في يد المشتري بلا تعد منه بل بسبب اضطراري ، وقد أخذه من يد مالكه بإذن ، فإذا وجب الضمان عليه خرج ماله الذي أداه من ملكه مجانا : أي بلا عقد ولا تعد في شيء فيلزم النظر لأحد المتآخذين في العقد وترك النظر عن الآخر تأمل . ( قوله : وله أن يعيره إذا كان مما لا يختلف باختلاف المستعمل ) قال عامة الشراح : كالحمل والاستخدام والسكنى والزراعة . وقال في النهاية ومعراج الدراية : كذا ذكره [ ص: 11 ] في النظائر الإمام التمرتاشي .

أقول : في أكثر هذه الأمثلة إشكال : أما في مثال الحمل فلأنه وإن كان مطابقا لما ذكره المصنف في آخر هذه المسألة بقوله فلو استعار دابة ولم يسم شيئا له أن يحمل ويعير غيره للحمل ; لأن الحمل لا يتفاوت انتهى . إلا أنه مخالف لما سيجيء في كتاب الإجارات في باب ما يجوز من الإجارة وما لا يجوز من أن الحمل كالركوب واللبس مما يختلف باختلاف المستعمل . وحكمه كحكمهما عند الإطلاق والتقييد كما ستطلع عليه . وقد اضطرب كلام الفقهاء في عامة المعتبرات في شأن الحمل حيث قالوا في كتاب العارية : إنه مما لا يتفاوت ، وقالوا في كتاب الإجارات إنه مما يتفاوت ، وممن ظهرت المخالفة جدا بين كلاميه في المقامين صاحب الكافي ، فإنه قال هاهنا : سواء كان المستعار شيئا يتفاوت الناس في الانتفاع به كاللبس في الثوب والركوب في الدابة أو لا يتفاوتون في الانتفاع به كالحمل على الدابة . وقال في الإجارات : ويقع التفاوت في الركوب واللبس والحمل ، فما لم يبين لا يصير المعقود عليه معلوما فلا يحكم بجواز الإجارة انتهى .

وأما في مثال الزراعة فلأنه سيأتي في كتاب الإجارات في الباب المزبور أنه لا يصح عقد الإجارة في استئجار الأراضي للزراعة حتى يسمي ما يزرع فيها ; لأن ما يزرع فيها متفاوت فلا بد من التعيين كي لا تقع المنازعة . ولا يخفى أن المفهوم منه أن الزراعة مما يختلف باختلاف المستعمل ، وعن هذا مثل الإمام الزيلعي لما يختلف باختلاف المستعمل فيما نحن فيه بأمثلة ، وعد منها الزراعة حيث قال : كاللبس والركوب والزراعة . وأما في مثال السكنى فلأن سكنى الحداد والقصار يضر بالبناء دون سكنى غيرهما ، ولهذا لا يدخل سكناهما في استئجار الدور والحوانيت للسكنى كما ذكر في كتاب الإجارات ، فكان السكنى أيضا مما يختلف باختلاف المستعمل .

ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الإضرار بالبناء أثر الحدادة والقصارة لا أثر السكنى ; لأن مجرد السكنى لا يؤثر في انهدام البناء يضاف الانهدام إلى الحدادة والقصارة كما بينه صاحب النهاية في كتاب الإجارات فلم يقع الاختلاف باختلاف المستعمل في نفس السكنى بل في أمر خارج عنه ، والمثال هاهنا إنما هو نفس السكنى فلا إشكال فيه ( قوله : والمنافع اعتبرت قابلة للملك في الإجارة فتجعل كذلك في الإعارة دفعا للحاجة ) جواب عن قول الشافعي رحمه الله المنافع غير قابلة للملك .

وتقريره لا نسلم أنها غير قابلة للملك فإنها تملك بالعقد كما في الإجارة فتجعل في الإعارة كذلك دفعا للحاجة ، كذا في العناية وغيرها . أقول : فيه بحث ; لأن حاصله القياس على الإجارة ، وقد تدارك الشافعي دفعه حيث قال في ذيل تعليله : وإنما جعلناها موجودة في الإجارة للضرورة وقد اندفعت بالإباحة : يعني أن علة اعتبار المنافع المعدومة قابلة للملك في الإجارة ضرورة دفع حاجة الناس ، وهذه العلة منتفية في الإعارة لاندفاع حاجتهم بالإباحة فلم يتم ما ذكره المصنف هنا جوابا عنه ، اللهم إلا أن يقال : الناس كما يحتاجون إلى الانتفاع بالشيء ; لأنفسهم كذلك يحتاجون إلى نفع غيرهم بذلك الشيء . وعند كون الإعارة إباحة لا يقدرون على نفع غيرهم بالعارية فلا تندفع حاجتهم الأخرى ، فضرورة دفع حاجتهم بالكلية دعت إلى اعتبار المنافع قابلة للملك في العارية كما [ ص: 12 ] في الإجارة .

قال صاحب العناية بعد تقرير مراد المصنف هاهنا وقد مر الكلام فيه : أقول : لم يمر منه كلام مناسب للمقام سوى بحثه الثالث من أبحاثه الثلاثة التي أوردها في صدر كتاب العارية ، ودفعنا كله هناك لكنه ليس بمتمش هنا ; لأن حاصله أن قياس المنافع على الأعيان ليس بتام ; لأن من شرط القياس كون الفرع نظير الأصل والمنافع ليست نظير الأعيان ، ولا شك أن المقيس والمقيس عليه فيما نحن فيه كلاهما من قبيل المنافع فكان الفرع نظير الأصل قطعا . ( قوله : وهذا إذا صدرت الإعارة مطلقة ) قال عامة الشراح : أي ما ذكر من ولاية الإعارة للمستعير إذا صدرت الإعارة مطلقة . أقول : فيه إشكال ; لأن المذكور في الكتاب أن للمستعير أن يعير المستعار فيما إذا كان مما لا يختلف باختلاف المستعمل ، فمعناه أن للمستعير ولاية الإعارة فيما إذا كان المستعار مما لا يختلف باختلاف المستعمل . وقد تقرر في عامة كتب الفقه حتى المتون أن اختصاص ولاية الإعارة للمستعير بما إذا كان المستعار مما لا يختلف باختلاف المستعمل إنما هو إذا صدرت الإعارة مقيدة بأن ينتفع به المستعير بنفسه ، وأما إذا صدرت الإعارة مطلقة فللمستعير ولاية الإعارة مطلقا : أي سواء كان المستعار مما يختلف باختلاف المستعمل أو مما لا يختلف ، وهذا مما أطبق عليه كلمة فقهاء الحنفية حتى المصنف نفسه حيث قال في آخر هذه المسألة : فلو استعار دابة ولم يسم شيئا له أن يحمل ويعير غيره للحمل ; لأن الحمل لا يتفاوت ، وله أن يركب ويركب غيره ، وإن كان الركوب مختلفا ا هـ .

. فقول المصنف : وهذا إذا صدرت الإعارة مطلقة على تقدير أن يريد بكلمة هذا الإشارة إلى ما قاله عامة الشراح كما هو الظاهر إنما يتم لو لم يكن ما ذكر في الكتاب فيما قبل مقيدا بقوله إذا كان مما لا يختلف باختلاف المستعمل . ولما كان ذلك مقيدا به لم يتم قوله المزبور بل كان ينبغي له أن يقول هذا إذا صدرت الإعارة مقيدة على مقتضى ما نصوا عليه قاطبة كما بيناه .

والعجب من عامة الشراح أنهم فسروا المشار إليه بكلمة هذا الواقعة في كلام المصنف بما ذكروا ، ولم يتعرضوا لما فيه من الإشكال مع ظهوره جدا . ثم إن الشارح تاج الشريعة كأنه تنبه للمحذور الذي ذكرناه فقال في شرح قول المصنف : وهذا إذا صدرت الإعارة مطلقة الإشارة لا تعود إلى المسألة المتقدمة بل إلى أن للمستعير أن ينتفع بالعارية ما شاء إذا أطلقت العارية . ا هـ . أقول : هذا الذي ذكره هذا الشارح وجعله ما يعود إليه الإشارة مما لم يذكر فيما قبل قط فكيف يصلح أن يكون مشارا إليه بكلمة هذا الواقعة في كلام المصنف هاهنا ، ولا يشار باسم الإشارة لا إلى المحسوس المشاهد ، أو إلى ما هو بمنزلة المحسوس المشاهد كما تقرر في موضعه ، فكأنه هرب عن ورطة ووقع في ورطة أخرى أشد من الأولى . والإنصاف أن المصنف لو ترك قوله وهذا إذا صدرت الإعارة مطلقة وشرع في الكلام الذي بسطه بأن يقول والإعارة على أربعة أوجه لكان أحرى ، ولقد أحسن صاحب الكافي في هذا المقام حيث قال أولا : وله أن يعير ، وذكر خلاف الشافعي وبين دليل الطرفين . ثم قال : ثم هذه المسألة على وجهين : إما إن حصلت الإعارة مطلقة في حق المنتفع بأن أعار ثوبا للبس ولم يبين اللابس أو دابة للركوب ولم يبين الراكب أو دابة للحمل ولم يبين الحامل ، وفي هذا الوجه له أن يعير سواء كان المستعار شيئا يتفاوت الناس في الانتفاع به كاللبس في الثوب والركوب في الدابة أو لا يتفاوتون في الانتفاع به كالحمل على الدابة عملا بإطلاق اللفظ ، وإن حصلت الإعارة مقيدة بأن استعار ليلبس بنفسه أو ليركب بنفسه أو ليحمل بنفسه فله أن يعير فيما لا يتفاوت الناس في الانتفاع به كما في الحمل ، وليس [ ص: 13 ] له أن يعير فيما يتفاوت الناس في الانتفاع به كاللبس والركوب .

ثم قال : وهذا هو الكلام في إعارة المستعير . وأما الكلام في انتفاعه في المستعار فهو على أربعة أوجه ، فذكر ما ذكره المصنف من الوجوه الأربعة ( قوله : إلا إذا كان خلافا إلى مثل ذلك أو إلى خير منه ) كمن استعار دابة ليحمل عليها قفيزا من هذه الحنطة فحمل عليها قفيزا من حنطة أخرى أو حمل عليها قفيزا من شعير . وفي القياس يضمن ; لأنه مخالف . فإن عند اختلاف الجنس لا تعتبر المنفعة والضرر . ألا ترى أن الوكيل بالبيع بألف درهم إذا باع بألف دينار لم ينفذ بيعه . وجه الاستحسان أنه لا فائدة للمالك في تعيين الحنطة ، إذ مقصوده دفع زيادة الضرر عن دابته . ومثل كيل الحنطة من الشعير أخف على الدابة . والتقييد إنما يعتبر إذا كان مفيدا كذا في العصاية وغيرها . أقول : لقائل أن يقول : ما ذكروا في وجه الاستحسان منتقض بالوكيل بالبيع بألف درهم إذا باع بألف دينار فإنه لم ينفذ بيعه على ما صرحوا به . مع أن ما ذكروا في وجه هذا الاستحسان هاهنا جار هناك أيضا بعينه فينبغي أن ينفذ بيعه أيضا فتأمل .




الخدمات العلمية