الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن ذبح شاة غيره فمالكها بالخيار ، إن شاء ضمنه قيمتها وسلمها إليه ، وإن شاء ضمنه نقصانها ، وكذا الجزور ، وكذا إذا قطع يدهما ) هذا هو ظاهر الرواية . وجهه أنه إتلاف من وجه باعتبار [ ص: 340 ] فوت بعض الأغراض من الحمل والدر والنسل وبقاء بعضها وهو اللحم فصار كالخرق الفاحش في الثوب ، [ ص: 341 ] ولو كانت الدابة غير مأكول اللحم فقطع الغاصب طرفها للمالك أن يضمنه جميع قيمتها لوجود الاستهلاك من كل وجه ، بخلاف قطع طرف العبد المملوك حيث يأخذه مع أرش المقطوع ; لأن الآدمي يبقى منتفعا به بعد قطع الطرف . .

التالي السابق


( قوله ومن ذبح شاة غيره فمالكها بالخيار ، إن شاء ضمنه قيمتها وسلمها إليه ، وإن شاء ضمنه نقصانها ، وكذا الجزور ) وهو ما أعد للذبح من الإبل ، من الجزر وهو [ ص: 340 ] القطع يقع على الذكر والأنثى وهي تؤنث ، كذا قالوا : وإنما ذكر الجزور بعدما ذكر الحكم في الشاة من الخيار بين تضمين القيمة وتضمين النقصان لدفع شبهة ترد على اختيار تضمين النقصان بأن يقال : النقصان بالذبح في الشاة إنما كان بسبب تفويت صلاحيتها للدر والنسل والجزور هي التي أعدت للذبح فلم يكن الدر والنسل مطلوبين هاهنا فينبغي أن لا يضمن الغاصب النقصان بل استحق أجر المثل من جزارته على المالك ; لأنه حقق مقصوده فيها فكان زيادة لا نقصانا ، كما إذا غصب ثوبا فصبغه أحمر حيث يضمن المالك للغاصب ما زاد الصبغ إذا اختار أخذ الثوب لكون صبغ الحمرة زيادة فدفع تلك الشبهة بقوله وكذا الجزور وذلك ; لأن نفس إزالة الحياة عن الحيوان نقصان فكان للمالك الخيار ; لأنه يحتمل أن يكون للمالك مقصود فيها سوى الدر والنسل من الاسمان وتبقيتها إلى زمان ليحصل مقاصده منها ، كذا في النهاية ومعراج الدراية . وأفاد صاحب العناية خلاصة هذا المعنى بعبارة أخرى حيث قال : وإنما خصه لدفع ما عسى أن يتوهم أن غاصبه يجب أن يستحق أجر المثل لجزارته على المالك ; لأنه حقق مقصوده فيه فكان ذلك زيادة فيه لا نقصانا حيث أعد للجزر غير مطلوب منه الدر والنسل ، وذلك ; لأن نفس إزالة الحياة عن الحيوان نقصان فكان للمالك الخيار لاحتمال أن يكون له فيه مقصود سواهما من زيادة الاسمان والتأخير إلى وقت آخر لمصلحة له في ذلك ا هـ كلامه .

. ورد عليه بعض الفضلاء قوله وإنما خصه لدفع ما عسى أن يتوهم أن غاصبه يجب أن يستحق أجر المثل حيث قال : لا مجال لهذا التوهم أصلا ; لأن فعله لو لم يكن غصبا فهو تبرع لا يستحق به الأجر . وقال : فالأولى طي قضية استحقاق أجر المثل من البين ويقول بدله إن ذابحه يجب أن لا يكون غاصبا ا هـ . أقول : إن قوله لا مجال لهذا التوهم أصلا تحكم . وقوله ; لأن فعله لو لم يكن غصبا فهو تبرع لا يستحق به الأجر غير مسلم ، فإنه إذا لم يكن متبرعا لما زاده الصبغ فيما [ ص: 341 ] إذا أخذ ثوب غيره فصبغه أحمر ، بل ضمنه للمالك إذا اختار أخذ الثوب كما سيأتي ، فلم لا يجوز أن لا يكون متبرعا لما زاده الذبح فيما إذا ذبح جزور غيره ، بل استحق أجر المثل بناء على أنه حقق مقصود المالك ، وهذا القدر من القياس إن لم يكن مناطا للاجتهاد فلا أقل من أن يكون منشأ للتوهم ، فلا بد من دفع ذلك التوهم ؟ فأشار المصنف إلى دفعه بقوله وكذا الجزور وهذا هو مراد الشراح هاهنا ولا غبار عليه .

( قوله ولو كانت الدابة غير مأكول اللحم فقطع الغاصب طرفها للمالك أن يضمنه جميع قيمتها لوجود الاستهلاك من كل وجه ) قال صاحب العناية : قيل ليس لتقييده بغير مأكول اللحم فائدة ، فإن حكم مأكوله أيضا كذلك ; لأنه عطف قوله وكذا إذا قطع يدهما على قوله إن شاء ضمنه قيمتها وسلمها إليه وإن شاء ضمنه نقصانها ، فدل على أنهما في الحكم سواء . ومن الشارحين من قال : هذا إنما هو على اختيار صاحب الهداية ، والظاهر وجوب تضمين القيمة بلا خيار فيهما : يعني في مأكول اللحم وغير مأكوله إذا قطع طرفه فكان فائدة ذكره رد ذلك الظاهر ، وفيه نظر من وجهين : أحدهما أنه لو كان كذلك لكفى أن يقول : وكذلك إذا كانت غير مأكول اللحم . والثاني أن التعليل يدل على مغايرة الحكم بين قطع طرف مأكول اللحم وغير مأكوله حيث قال في الأول : إنه إتلاف من وجه ، وفي الثاني : لوجود الاستهلاك من كل وجه ، إلى هنا لفظ العناية ا هـ .

أقول : القائل بعدم فائدة التقييد بغير مأكول اللحم إنما هو صاحب النهاية وصاحب معراج الدارية ، وأما المراد بمن قال في قوله ومن الشارحين من قال فالظاهر أنه هو صاحب غاية البيان إذ لم يقل أحد من الشارحين بما يشبه القول المذكور سوى صاحب الغاية ، إلا أن ما نقله صاحب العناية ليس عين عبارة صاحب الغاية أيضا ، فإن عين عبارته هكذا : هذا الفرق بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم في قطع الطرف على ما ذهب إليه صاحب الهداية ، والظاهر وجوب تضمين جميع القيمة فيها بلا خيار ، وقد مر من قبل هذا ا هـ .

ولا يخفى على ذي مسكة أنه لا يرد على هاتيك العبارة شيء من وجهي نظر صاحب العناية ; لأن مدار ورودهما على حمل مراد المصنف على تسوية مأكول اللحم وغير مأكوله في الحكم ، وعبارة صاحب الغاية تنادي على حمل مراده على الفرق بينهما حيث قال : هذا الفرق بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم في قطع الطرف على ما ذهب إليه صاحب الهداية تبصر . ثم قال صاحب العناية : والظاهر من كلام المصنف نفي خيار المالك بين [ ص: 342 ] تضمين قيمتها وبين إمساك الجثة وتضمين نقصانها ويكون ذلك اختيارا منه وإن كان نقل الكتب على خلافه ، فإنه ذكر في الذخيرة والمغني فقال : وفي المنتقى : هشام عن محمد : رجل قطع يد حمار أو رجله وكان لما بقي قيمة فله أن يمسك ويأخذ النقصان ا هـ كلامه .

أقول : لمانع أن يمنع مخالفة ما اختاره المصنف لنقل الكتب المذكورة ; لأن ما رواه هشام عن محمد رحمه الله من جواز اختيار الإمساك وأخذ النقصان فيما إذا قطع طرفا من غير مأكول اللحم مقيد بأن كان لما بقي قيمة كما ترى ، ويجوز أن يكون ما اختاره المصنف وجوب تضمين جميع القيمة فيما إذا لم يكن لما بعد قطع الطرف قيمة ، بدلالة قوله لوجود الاستهلاك من كل وجه على ذلك ; لأنه لا يوجد الاستهلاك من كل وجه فيما إذا كان لما بقي بعد قطع الطرف قيمة ، بل يبقى فيه منفعة القيمة فيصير هالكا من وجه دون وجه ، وكأن صاحب الكفاية تنبه لذلك حيث قال في شرح قول المصنف : ولو كانت الدابة غير مأكول اللحم فقطع الغاصب طرفها للمالك أن يضمنه جميع قيمتها : أي الواجب هنا جميع القيمة إذا لم يكن للدابة منفعة بعد قطع طرفها لوجود الاستهلاك من كل وجه ، أما إذا كان لما بقي قيمة فله أن يمسك ويأخذ النقصان ، ونقل ما في [ ص: 343 ] المنتقى من رواية هشام عن محمد رحمه الله




الخدمات العلمية