الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 390 ] فصل في الاختلاف قال ( وإن اختلف الشفيع والمشتري في الثمن فالقول قول المشتري ) ; لأن الشفيع يدعي استحقاق الدار عليه عند نقد الأقل وهو ينكر والقول قول المنكر مع يمينه ، ولا يتحالفان ; لأن الشفيع إن كان يدعي عليه استحقاق الدار فالمشتري لا يدعي عليه شيئا لتخيره بين الترك والأخذ ولا نص هاهنا ، فلا يتحالفان . [ ص: 391 ] قال ( ولو أقاما البينة فالبينة للشفيع عند أبي حنيفة ومحمد ، وقال أبو يوسف : البينة بينة المشتري ; لأنها أكثر إثباتا ) فصار كبينة البائع والوكيل والمشتري من العدو . ولهما أنه لا تنافي بينهما فيجعل كأن الموجود بيعان ، وللشفيع أن يأخذ بأيهما شاء وهذا بخلاف البائع مع المشتري ; لأنه لا يتوالى بينهما عقدان إلا بانفساخ الأول وهاهنا الفسخ لا يظهر في حق الشفيع وهو التخريج لبينة الوكيل ; لأنه كالبائع والموكل كالمشتري منه ، كيف وأنها ممنوعة على ما روي عن محمد ، [ ص: 392 ] وأما المشتري من العدو فقلنا ذكر في السير الكبير أن البينة بينة المالك القديم . فلنا أن نمنع ( وبعد التسليم نقول : لا يصح الثاني هنالك إلا بفسخ الأول ، أما هاهنا فبخلافه ) ، ولأن بينة الشفيع ملزمة وبينة المشتري غير ملزمة والبينات للإلزام . .

[ ص: 390 ]

التالي السابق


[ ص: 390 ] ( فصل في الاختلاف )

لما ذكر مسائل الاتفاق بين الشفيع والمشتري شرع في مسائل الاختلاف بينهما ، وقدم الأول ; لأن الأصل هو الاتفاق ( قوله ولا نص هاهنا فلا يتحالفان ) قال صاحب النهاية في شرح هذا المقام : إنما النص في حق البائع والمشتري مع وجود معنى الإنكار من الطرفين هناك فوجب اليمين لذلك في الطرفين ، ولم يوجد الإنكار هنا في طرف الشفيع فلم يكن في معنى ما ورد فيه النص فلذلك لم يجب التحالف هنا ا هـ .

واقتفى أثره صاحب معراج الدراية كما هو دأبه في أكثر المواضع ، وتحرير صاحب غاية البيان أيضا يشعر بذلك ، فإنه بعدما بين عدم وجوب التحالف هنا على نهج ما ذكره المصنف من قبل قال : فلم يكن اختلافهما في معنى ما ورد به النص وهو قول عليه الصلاة والسلام { إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا } فلا جرم لم يجب التحالف ا هـ .

أقول : ليس هذا بشرح صحيح ; لأن وجود معنى الإنكار من الطرفين في اختلاف المتبايعين إنما هو فيما إذا وقع الاختلاف قبل القبض ، وأما إذا وقع بعد القبض فمعنى الإنكار هناك أيضا إنما يوجد في طرف واحد وهو المشتري ، فكان التحالف في تلك الصورة مخالفا للقياس ، ولكنا عرفناه بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم { إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا } وقد مر ذلك كله مستوفيا في باب التحالف من كتاب الدعوى ، فلو كان الوجه في عدم كون ما نحن فيه في معنى ما ورد فيه النص أن لا يوجد معنى الإنكار من الطرفين لانتقض ذلك قطعا بصورة اختلاف المتبايعين بعد القبض . والصواب أن وجه عدم كون ما نحن فيه معنى ما ورد فيه النص هو أن الشفيع مع المشتري ليس في معنى البائع والمشتري من كل وجه لانتفاء شرط البيع وهو التراضي فلا يلحقان بهما في حكم التحالف .

وقد أفصح عنه تاج الشريعة حيث قال : وليس هذا في معنى ما ورد فيه النص بالتحالف من كل وجه ; لأن ركن البيع وإن وجد لكن بالنظر إلى فوات شرطه وهو الرضا لم يوجد فلا يلحق به ا هـ . قال الزيلعي في شرح هذه المسألة من الكنز : ولا يتحالفان ; لأن التحالف عرف بالنص فيما إذا وجد الإنكار من الجانبين والدعوى من الجانبين ، المشتري لا يدعي على الشفيع شيئا فلا يكون الشفيع منكرا فلا يكون في معنى ما ورد النص فامتنع القياس ا هـ .

أقول : الخلل في كلامه أشد وأظهر . فإنه قال أولا : لأن التحالف عرف بالنص فيما إذا وجد الإنكار من الجانبين والدعوى من الجانبين ، وليس كذلك ; لأنه عرف بالنص أيضا فيما لا إنكار [ ص: 391 ] ولا دعوى إلا من جانب واحد كما إذا اختلف المتبايعان بعد القبض على ما صرحوا به قاطبة حتى نفسه في كتاب الدعوى ، بل الذي عرف بالنص هذه الصورة ; لأن التحالف فيما إذا وجد الإنكار من الجانبين والدعوى من الجانبين ثابت بالقياس بدون ذلك النص .

وقال آخرا فامتنع القياس ، ولا يخفى أن امتناع القياس لا يقتضي امتناع الإلحاق بطريق دلالة النص ، فإن كثيرا من الأمور لا يجري فيه القياس ويصح إثباته بطريق الدلالة على ما عرف في موضعه فبمجرد امتناع القياس هاهنا لا يتم المطلوب ، فحق العبارة أن يقال فلا يلحق به ليعم القياس والدلالة ( قوله وقال أبو يوسف : البينة بينة المشتري ; لأنها أكثر إثباتا ) أقول : لقائل أن يقول : البينة إنما تسمع من المدعي ، والمشتري لا يدعي على الشفيع شيئا ولهذا لا يتحالفان بالاتفاق كما مر آنفا ، فلزم أن لا تصح بينة المشتري أصلا فضلا عن أن ترجح على بينة الشفيع كما قاله أبو يوسف .

ثم أقول : يمكن الجواب عنه بأن المشتري وإن كان مدعى عليه لا مدعيا في الحقيقة إلا أنه مدع صورة حيث يدعي زيادة الثمن ، ومن كان مدعيا صورة تسمع بينته إذا أقامها ، كما في المودع إذا ادعى رد الوديعة على المودع وأقام عليه بينة على ما عرف في محله .

وأما الحلف فإنما يجب على من كان مدعى عليه حقيقة ولا يجب على من كان مدعى عليه صورة ; ألا يرى أن المودع إذا ادعى رد الوديعة على المودع وعجز عن إقامة البينة عليه فإنما يجب الحلف على المودع لكونه منكر الضمان حقيقة ، ولا يجب على المودع مع كونه في صورة المدعى عليه برد الوديعة عليه فكان للمشتري فيما نحن فيه مجال إقامة البينة وإن لم يجب على خصمه الحلف أصلا فرجح أبو يوسف بينته بناء على كونها أكثر إثباتا ، وبهذا التفصيل تبين أن قول صدر الشريعة في شرح الوقاية في هذا المقام وحجتهما ما ذكرنا مؤيدا به ما ذكره قبله بقوله ; لأن الشفيع يدعي استحقاق الدار عند نقد الأقل والمشتري ينكره ليس بسديد .

وعن هذا لم يحك عن أبي حنيفة الاحتجاج بذلك مع ظهوره جدا ، وإنما حكي عنه الطريقتان اللتان ذكرهما المصنف بقوله ولهما أنه لا تنافي إلخ ، وبقوله ; لأن بينة الشفيع ملزمة إلخ ، حكى أولاهما محمد وأخذ بها ، وحكى ثانيتهما أبو يوسف ولم يأخذ بها كما ذكروا في الشروح .

( قوله وهو التخريج لبينة الوكيل ; لأنه كالبائع والموكل كالمشتري منه ) أقول : لقائل أن يقول : إن أريد أن الوكيل كالبائع والموكل كالمشتري منه من كل وجه فهو ممنوع لظهور الاختلاف في بعض الأحكام ، وإن أريد أن الوكيل [ ص: 392 ] والموكل كالبائع والمشتري في بعض الوجوه فهو مسلم ، ولكن الشفيع والمشتري أيضا بمنزلة البائع والمشتري في بعض الوجوه كما صرحوا به قاطبة فلا يتم الفرق فليتأمل في الدفع ( قوله وبعد التسليم نقول : لا يصح الثاني هنالك إلا بفسخ الأول ، أما هاهنا فبخلافه ) أقول : يرد على ظاهره أن البيع الثاني لا يصح هنا أيضا ، ولا يفسخ الأول ضرورة عدم تصور بيع شيء واحد من شخص واحد مرتين إلا بفسخ الأول ، ويدل على لزوم الفسخ هنا أيضا قول المصنف فيما قبل وهاهنا الفسخ لا يظهر في حق الشفيع حيث نفى ظهور الفسخ في حق الشفيع ، وذلك يقتضي تحقق الفسخ في نفسه والجواب أن مراد المصنف بالفسخ في قوله لا يصح الثاني هنالك إلا بفسخ الأول ، أما هاهنا فبخلافه هو الفسخ في حق الثالث وهو المالك القديم هنالك والشفيع هنا لا الفسخ في حق المتعاقدين ، والذي لزم تحققه ضرورة في الفصلين معا هو الثاني دون الأول ، فمعنى كلام المصنف هنا [ ص: 393 ] أن الفسخ يظهر في حق الثاني هنالك كما يظهر في حق المتعاقدين ، أما هنا فبخلافه : أي لا يظهر في حق الثالث .

وثمرة هذا الاختلاف أن الثالث هنالك وهو المالك القديم يأخذ العبد المأسور من المشتري من العدو بالثمن الثاني ، وأما الثالث هنا وهو الشفيع فيأخذ الدار من المشتري بأي الثمنين شاء . فإن قلت : نعم معنى كلام المصنف ذلك قطعا ، ولكن ما وجه ظهور الفسخ هنالك في حق المالك القديم وعدم ظهوره هنا في حق الشفيع ما الفرق بينهما ؟ قلت : حق الشفيع تعلق بالدار من وقت وجود البيع الأول ، وأما حق المالك القديم فلم يتعلق بالعبد المأسور إلا بعد الإخراج إلى دار الإسلام ، والإخراج إليها لم يكن إلا بالبيع الثاني فافترقا ، وحل هذا المقام بهذا الوجه مما يهم ، وقد أهمله الشراح مع التزامهم بيان الظواهر في كثير من المواضع .




الخدمات العلمية