الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 168 ] قال ( وإذا كاتبه على حيوان غير موصوف فالكتابة جائزة ) معناه أن يبين الجنس ولا يبين النوع والصفة ( وينصرف إلى الوسط ويجبر على قبول القيمة ) وقد مر في النكاح ، أما إذا لم يبين الجنس مثل أن يقول دابة لا يجوز لأنه يشمل أجناسا مختلفة فتتفاحش الجهالة ، وإذا بين الجنس كالعبد والوصيف فالجهالة يسيرة ومثلها يتحمل في الكتابة فتعتبر جهالة البدل بجهالة الأجل فيه . [ ص: 169 ] وقال الشافعي رحمه الله : لا يجوز ، وهو القياس لأنه معاوضة فأشبه البيع .

ولنا أنه معاوضة مال بغير مال أو بمال لكن على وجه يسقط الملك فيه فأشبه النكاح ، والجامع أنه يبتنى على المسامحة ، بخلاف البيع لأنه مبني على المماكسة .

التالي السابق


( قوله أما إذا لم يبين الجنس مثل أن يقول دابة لا يجوز لأنه يشمل أجناسا فتتفاحش الجهالة ، وإذا بين الجنس كالعبد والوصيف فالجهالة يسيرة ومثلها يتحمل في الكتابة ) قال في العناية : واعترض على المصنف بأن شمول اللفظ للأجناس لو منع الجواز لما جازت فيما إذا كاتب على عبد ، لأن المصنف ذكر في كتاب الوكالة أن العبد يتناول أجناسا ولهذا لم يجوز التوكيل بشراء العبد . والجواب أن اللفظ إن شمل أجناسا عالية كالدابة مثلا أو متوسطة كالمركوب منع الجواز مطلقا في الكتابة والوكالة والنكاح والبيع وغيرها ، وإن شمل أجناسا سافلة كالعبد منعه فيما بني على المماكسة كالبيع والوكالة لا فيما بني على المسامحة كالكتابة والنكاح انتهى .

أقول : ليس السؤال بشيء ولا الجواب . أما الأول فلأنا لا نسلم أن شمول اللفظ للأجناس إن منع الجواز ما جازت فيما إذا كاتب على عبد ، وقوله لأن المصنف ذكر في كتاب الوكالة أن العبد يتناول أجناسا ولهذا [ ص: 169 ] لم يجوز التوكيل بشراء العبد فرية بلا مرية لأن المصنف ما ذكر قط في كتاب الوكالة ولا في موضع آخر أن العبد يتناول أجناسا ، والذي ذكره في كتاب الوكالة إنما هو أن العبد يشمل أنواعا ، وأن ما يشمل أنواعا لا يصح التوكيل بشرائه إلا ببيان الثمن أو النوع ، فإنه قال هناك : ثم إن كان اللفظ يجمع أجناسا أو ما هو في معنى الأجناس لا يصح التوكيل وإن بين الثمن ، لأن بذلك الثمن يوجد من كل جنس فلا يدرى مراد الآمر لتفاحش الجهالة ، وإن كان جنسا يجمع أنواعا لا يصح إلا ببيان الثمن أو النوع ، لأن بتقدير الثمن يصير النوع معلوما ، وبذكر النوع تقل الجهالة فلا يمتنع الامتثال .

مثاله : إذا وكله بشراء عبد أو جارية لا يصح لأنه يشمل أنواعا ، فإن بين النوع كالتركي والحبشي والمولد جاز ، وكذا إذا بين الثمن لما ذكرنا ا هـ .

فهل يتوهم العاقل من ذلك الكلام أن العبد يتناول أجناسا حتى يجعله مدارا للاعتراض على المصنف هاهنا ، وقد سبق إلى هذا التوهم صاحب النهاية ومعراج الدراية ؟ ولعمري إنه من العجائب من أمثال هؤلاء الفحول . وأما الثاني فلأن الجواب المزبور مع ابتنائه على القول بمراتب الأجناس الذي هو من أصول أهل المعقول دون اصطلاحات أهل الفقه بمعزل عما يفهم من كلام المصنف في المقامين : أي في كتاب الوكالة ، وفيما نحن فيه ، أما هناك فلما عرفت آنفا ، وأما فيما نحن فيه فلأنه لو كان مراده ما في الجواب المزبور لزمه أن يقيد بالجنس في قوله ومعناه أن يبين الجنس بالجنس العالي والمتوسط ، إذا بيان الجنس الأسفل ليس بواجب على مقتضى ذلك الجواب فلا بد من البيان ( قوله ولنا أنه معاوضة مال بغير مال أو بمال ، لكن على وجه يسقط الملك فيه فأشبه النكاح ، والجامع أنه يبتنى على المسامحة ، بخلاف البيع لأنه مبني على المماكسة ) قال صاحب العناية في شرح هذا المقام .

[ ص: 170 ] ولنا أن هذا يعني ما قاله الشافعي قياس فاسد ، لأن قياس الكتابة على البيع إما أن يكون من حيث ابتداؤها أو من حيث الانتهاء والأول لا يصح لأن البيع معاوضة مال بمال ، والكتابة معاوضة مال بغير مال لأنها في مقابلة فك الحجر في الابتداء ، وكذلك الثاني لأنها وإن كانت في الانتهاء معاوضة مال بمال وهو الرقبة لكن على وجه يسقط الملك فيه فأشبه النكاح في الانتهاء ، وفي أن مبنى كل منهما على المسامحة ، وهذا المقدار كاف في إلحاقها بالنكاح .

وقوله بخلاف البيع لأنه مبني على المماكسة لزيادة استظهار . انتهى كلامه . أقول : فيه نظر . أما أولا فلأنه جعل قول المصنف فأشبه النكاح متفرعا على الشق الثاني حيث قال : فأشبه النكاح في الانتهاء ، وليس بتام لأن كون النكاح في الابتداء معاوضة مال وهو المهر بغير مال وهو منفعة البضع ظاهر مقرر عندهم في محله .

أما كونه في الانتهاء معاوضة مال بمال فغير ظاهر ومما لم يقل به أحد من الشراح هاهنا سوى تاج الشريعة والعيني فإنهما قالا في تعليل قول المصنف فأشبه النكاح لأن منافع البضع مال عند الدخول فيكون معاوضة مال بمال انتهى ، فكان حق المقام أن يجعل قول المصنف فأشبه النكاح متفرعا إما على الشق الأول فقط أو على مجموع الشقين .

وأما ثانيا فلأنه قال : وهذا [ ص: 171 ] المقدار كاف في إلحاقها بالنكاح ، وجعل قول المصنف بخلاف البيع لأنه مبني على المماكسة لزيادة الاستظهار ، وليس هذا بتام أيضا لأن مجرد مشابهة شيء لشيء في وجه لا ينافي مشابهته لغيره في ذلك الوجه أو في وجه آخر ، فمشابهة عقد الكتابة للنكاح فيما ذكر لا ينافي مشابهته للبيع أيضا .

فلو لم يذكر قوله بخلاف البيع لأنه مبني على المماكسة لما ظهر اختصاص هاتيك المشابهة بالنكاح حتى يثبت عدم صحة قياس الشافعي عقد الكتابة على البيع كما هو المطلوب على ما أفصح عنه قول الشارح المزبور . ولنا أن هذا قياس فاسد ، لأن قياس الكتابة على البيع إما أن يكون من حيث الابتداء أو من حيث الانتهاء إلخ ، فكان قوله بخلاف البيع عمدة في إثبات المطلوب ولم يكن لزيادة الاستظهار فقط ، والله الموفق للصواب .




الخدمات العلمية