الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وديونه متعلقة برقبته يباع للغرماء إلا أن يفديه المولى ) وقال زفر والشافعي : لا يباع ويباع كسبه في دينه بالإجماع . لهما أن غرض المولى من الإذن تحصيل مال لم يكن لا تفويت مال قد كان له ، [ ص: 293 ] وذلك في تعليق الدين بكسبه ، حتى إذا فضل شيء منه عن الدين يحصل له لا بالرقبة ، بخلاف دين الاستهلاك ; لأنه نوع جناية ، واستهلاك الرقبة بالجناية لا يتعلق بالإذن . ولنا أن الواجب في ذمة العبد ظهر وجوبه في حق المولى فيتعلق برقبته استيفاء كدين الاستهلاك ، والجامع دفع الضرر عن الناس ، وهذا ; لأن سببه التجارة وهي داخلة تحت الإذن ، وتعلق الدين برقبته استيفاء حامل على المعاملة ، فمن هذا الوجه صلح غرضا للمولى ، وينعدم الضرر في حقه بدخول المبيع في ملكه ، [ ص: 294 ] وتعلقه بالكسب لا ينافي تعلقه بالرقبة فيتعلق بهما ، غير أنه يبدأ بالكسب في الاستيفاء لحق الغرماء وإبقاء لمقصود المولى ، وعند انعدامه يستوفى من الرقبة . وقوله في الكتاب ديونه المراد منه دين وجب بالتجارة أو بما هو في معناها كالبيع والشراء والإجارة والاستئجار وضمان الغصوب والودائع والأمانات إذا جحدها ، وما يجب من العقر بوطء المشتراة بعد الاستحقاق لاستناده إلى الشراء فيلحق به [ ص: 295 ] قال ( ويقسم ثمنه بينهم بالحصص ) لتعلق حقهم بالرقبة فصار كتعلقها بالتركة ( فإن فضل شيء من ديونه طولب به بعد الحرية ) لتقرر الدين في ذمته وعدم وفاء الرقبة به ( ولا يباع ثانيا ) كي لا يمتنع البيع أو دفعا للضرر عن المشتري ( ويتعلق دينه بكسبه سواء حصل قبل لحوق الدين أو بعده ويتعلق بما يقبل من الهبة ) ; لأن المولى إنما يخلفه في الملك بعد فراغه عن حاجة العبد ولم يفرغ ( ولا يتعلق بما انتزعه المولى من يده قبل الدين ) لوجود شرط الخلوص له ( وله أن يأخذ غلة مثله بعد الدين ) ; لأنه لو لم يكن منه يحجر عليه فلا يحصل الكسب ، والزيادة على [ ص: 296 ] غلة المثل يردها على الغرماء لعدم الضرورة فيها وتقدم حقهم . .

التالي السابق


. ( قوله وديونه متعلقة برقبته يباع للغرماء ) أي يبيعه القاضي لدين الغرماء بغير رضا المولى . فإن قيل : ما وجه البيع على قول أبي حنيفة وهو لا يرى الحجر على الحر العاقل بسبب الدين وبيع القاضي العبد بغير رضا مولاه حجر عليه . أجيب بأن ذلك ليس بحجر عليه ; لأنه كان قبل ذلك محجورا عن بيعه ، إذ لا يجوز للمولى بيع العبد المديون بغير رضا الغرماء وحجر المحجور غير متصور فكان كالتركة المستغرقة بالدين في جواز أن يبيعها القاضي على الورثة إن امتنعوا عن قضاء الدين فإنه لا يعد حجرا لكونهم محجورين عن بيعها قبل ذلك بغير رضا الغرماء ، كذا في العناية وعامة الشروح ، وعزاه في النهاية ومعراج الدراية إلى الذخيرة . أقول : في الجواب نظر ; لأنه لا يحسم مادة الإشكال ، إذ لسائل أن يعيد الكلام إلى كونه محجورا عن بيعه قبل ذلك ، فإنه يقتضي الحجر على الحر العاقل بسبب الدين فيشكل على أصل أبي حنيفة .

ثم إن الفرق بينه وبين التركة المستغرقة بالدين ظاهر ، إذ لا يثبت الملك للورثة في التركة المستغرقة بالدين ; لأن حق الغريم يقدم على حق الوارث ، ولهذا إذا أعتق الورثة عبدا من التركة المستغرقة بالدين لا ينفذ إعتاقهم ، بخلاف العبد المأذون له فإن ملك المولى فيه باق ولهذا ينفذ إعتاقه إياه ، وسيأتي ذلك كله في الكتاب ، فسبب كون الورثة محجورين عن بيع التركة المستغرقة بالدين إنما هو عدم كونها مملوكة لهم فلا ينتقض به أصل أبي حنيفة ، وهو أن لا يرى الحجر بسبب الدين .

وأما كون المولى محجورا عن بيع عبده المأذون له فلا سبب له سوى الدين فيلزم أن ينتقض به أصله كما لا يخفى فتأمل ( قوله إلا أن يفديه المولى ) قال صاحب العناية : وقوله إلا أن يفديه المولى إشارة إلى أن البيع إنما يجوز إذا كان المولى حاضرا ; لأن اختيار الفداء من الغائب غير متصور ا هـ . أقول : فيه بحث لأن قوله إلا أن يفديه المولى إنما يشير إلى أن عدم جواز البيع عند الفداء كما هو الحاصل من الاستثناء ; لأنه إنما يتصور إذا كان المولى حاضرا بناء على أن اختيار الفداء من الغائب غير متصور ، وأما أن البيع إنما يجوز إذا كان المولى حاضرا فلا إشارة في قوله المذكور إليه ; لأن الفداء من المولى إنما يتصور عند حضور المولى أو نائبه .

وأما عدم الفداء منه فكما يتصور عند حضور المولى أو نائبه كذلك يتصور عند غيبتهما أيضا كما لا يخفى . والبيع إنما يجوز فيما إذا لم يقع الفداء من المولى كما هو الحاصل من الباقي بعد الثنيا في المسألة المذكورة ، فلما تصور عدم الفداء في كل من صورتي الحضور والغيبة احتمل جواز البيع في كل من تينك الصورتين أيضا فمن أين حصلت الإشارة إلى انحصار جوازه في صورة حضور المولى ؟ نعم البيع إنما يجوز إذا كان المولى حاضرا كما صرحوا به في الشروح وعامة المعتبرات حيث قالوا : هذا إذا كان المولى حاضرا .

فأما إذا كان غائبا [ ص: 293 ] فإنه لا يبيع العبد حتى يحضر المولى ، فإن الخصم في رقبة العبد هو المولى فلا يجوز البيع إلا بحضرته أو بحضرة نائبه ، بخلاف الكسب فإنه يباع بالدين وإن كان المولى غائبا ; لأن الخصم فيه هو العبد ا هـ . لكن الكلام في حصول الإشارة إليه في قول المصنف إلا أن يفديه المولى كما ادعاه صاحب العناية تدبر ( قوله وهذا ; لأن سببه التجارة وهي داخلة تحت الإذن ) قال صاحب العناية : وهذا إشارة إلى دفع الضرر وبيانه أن سبب هذا الدين التجارة ; لأنه المفروض والتجارة داخلة تحت الإذن بلا خلاف فسببها داخل تحته ، وإذا كان داخلا تحته كان ملتزما ، فلو لم يتعلق برقبته استيفاء كان إضرارا ; لأن الكسب قد لا يوجد والعتق كذلك فتتوى حقوق الناس . وقال : ويجوز أن يكون بيانا لقوله ظهر وجوبه في حق المولى ا هـ . أقول : لا يخفى على ذي فطرة سليمة أن الأوجه هو الذي ذكره ثانيا بقوله ويجوز أن يكون بيانا إلخ وإن كان أسلوب تحريره يشعر بخلافه ، وذلك ; لأن كون سبب [ ص: 294 ] الدين التجارة وكون التجارة داخلة تحت الإذن لا مدخل لخصوصية شيء منهما في حق تضرر الناس . فإنهم يتضررون بتوى حقهم سواء كان سبب الدين التجارة أو غيرها كصداق امرأة تزوجها العبد المأذون بغير إذن المولى ، وسواء كانت التجارة تجارة داخلة تحت الإذن أو تجارة غير داخلة تحته ، كما إذا لحق بالعبد المحجور دين بسبب التجارة . وأما في حق ظهور وجوب الدين في حق المولى فلخصوصية كل واحد منهما مدخل لا محالة ، فبالحمل على المعنى الأول لا يتم الفائدة والتقريب . وأما بالحمل على المعنى الثاني فيتم كل ذلك ; لأن المانع عن تعلق الدين برقبة العبد المحجور كان لزوم إبطال حق المولى من غير رضاه ، وإذا ظهر وجوب الدين في ذمة العبد المأذون في حق المولى بدخول سببه تحت إذن المولى زال ذلك المانع قطعا فتعلق الدين برقبته .

ومما يقرر المعنى الثاني تحرير صاحب الكافي دليلنا هاهنا حيث قال : ولنا أن هذا دين ظهر وجوبه في حق المولى ; لأنه وجب بسبب التجارة وإذنه قد ظهر في حق التجارة فتباع رقبة العبد فيه كدين الاستهلاك دفعا للضرر عن الناس ، وكذا تحرير صاحب الغاية إياه حيث قال : ولنا أنه دين واجب على العبد ظهر وجوبه في حق المولى فيتعلق برقبته قياسا على دين الاستهلاك . أما وجوبه على العبد فظاهر .

وأما ظهوره في حق المولى فلأن سبب الدين هو التجارة بإذن المولى فكان ظاهرا في حق المولى لا محالة ، وإذا ظهر في حق المولى تعلق برقبته استيفاء كما في دين الاستهلاك ، بخلاف ما إذا أقر المحجور حيث يثبت الدين عليه ولا يظهر في حق المولى لعدم إذنه ا هـ كلامه . ثم إن بعض الفضلاء قال : هاهنا : ولعل الأولى أن يكون قول المصنف وهذا إشارة إلى تعلق الدين برقبته ا هـ .

وكأنه أخذ هذا المعنى مما ذكره صاحب معراج الدراية في شرح هذا المحل حيث قال قوله وهذا : أي كون دين تجارته متعلقا برقبته باعتبار أن سببه التجارة ، وهي أي التجارة داخلة تحت الإذن ا هـ . أقول : هذا الاحتمال هاهنا ليس بشيء ; لأن تعلق الدين برقبته أصل المدعى الذي وقع فيه الخلاف لزفر والشافعي ، ولو كفى في إثبات [ ص: 295 ] ذلك قوله ; لأن سببه التجارة وهي داخلة تحت الإذن لكان باقي المقدمات المذكورة في دليلنا المزبور مستدركة .

ولا يخفى أن العمدة في إثبات مطلوبنا هذا إنما هي قوله ظهر وجوبه في حق المولى فهو المحتاج إلى البيان ، وتعلق الدين برقبته نتيجة متفرعة عليه ، ولذلك فرع عليه المصنف إياه بقوله فيتعلق برقبته ، فالوجه أن تكون كلمة هذا في قوله وهذا إشارة إلى ظهور وجوب ذلك الدين في حق المولى لا غير ، وهذا كله يظهر بالتأمل الصادق ( قوله ويقسم ثمنه بينهم بالحصص لتعلق حقهم بالرقبة فصار كتعلقها بالتركة ، فإن فضل شيء من ديونه طولب به بعد الحرية لتقرر الدين في ذمته وعدم وفاء الرقبة به ) قال صاحب العناية في شرح هذا المقام : إذا باع القاضي العبد يقسم ثمنه بين الغرماء بالحصص لتعلق حقهم بالرقبة فصار كتعلق الحقوق بالتركة ، وإن لم يكن بالثمن وفاء يضرب كل غريم في الثمن بقدر حقه ، كالتركة إذا ضاقت عن إيفاء حقوق الغرماء ، فإن بقي عليه شيء من ديونه : أي ديون العبد طولب به بعد الحرية لتقرر الدين في ذمته وعدم وفاء الرقبة به ا هـ كلامه .

أقول : في تقريره خلل ، فإن ذكر قوله فإن بقي عليه شيء من ديونه بطريق الشرطية سيما مع أداة التفريع بعد أن قال : وإن لم يكن بالثمن وفاء ليس بمستقيم ; لأنه إذا لم يكن بالثمن وفاء يتعين بقاء شيء من ديونه عليه فما معنى الشرطية ، وكان حق التحرير أن يقول : فما بقي عليه شيء من ديونه طولب به بعد الحرية ، بخلاف قول المصنف فإن فضل شيء من ديونه طولب به بعد الحرية فإنه في موقعه إذ لم يعين فيما قبله عدم وفاء الثمن بالديون ، بل إنما ذكر مجرد تقسيم ثمنه بينهم بالحصص فاحتمل أن يكون بالثمن وفاء وأن لا يكون فحسنت الشرطية وأداة التفريع كما لا يخفى .

( قوله لأن المولى إنما يخلفه في الملك بعد فراغه عن حاجة العبد ولم يفرغ ) قال صاحب العناية بعد قوله ولم يفرغ : فكان ككسب غير منتزع ا هـ . أقول : قد أخل بحق المقام بما زاده ، فإن [ ص: 296 ] التشبيه بكسب غير منتزع يشعر بكون التعليل المذكور في الكتاب مختصا بما يقبله العبد من الهبة ، مع أنه يعم تعلق دينه بكسبه وتعلقه بما يقبله من الهبة لجريانه في الصورتين معا بلا تفاوت ، كيف ولو كان مخصوصا بصورة قبول الهبة لبقيت المسألة الأولى [ ص: 297 ] وهي تعلق دينه بكسبه بلا ذكر دليل عليها مع كونها العمدة في المقام ، ولم يعهد مثله من المصنف رحمه الله قط




الخدمات العلمية