الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 405 ] قال ( وإذا ملك العقار بعوض هو مال وجبت فيه الشفعة ) لأنه أمكن مراعاة شرط الشرع فيه وهو التملك بمثل ما تملك به المشتري صورة أو قيمة على ما مر قال ( ولا شفعة في الدار التي يتزوج الرجل عليها أو يخالع المرأة بها أو يستأجر بها دارا أو غيرها أو يصالح بها عن دم عمد أو يعتق عليها عبدا ) لأن الشفعة عندنا إنما تجب في مبادلة المال بالمال لما بينا ، وهذه الأعواض ليست بأموال ، فإيجاب الشفعة فيها خلاف المشروع وقلب الموضوع وعند الشافعي تجب فيها الشفعة لأن هذه الأعواض متقومة عنده فأمكن الأخذ بقيمتها إن تعذر بمثلها كما في البيع بالعرض ، بخلاف الهبة لأنه لا عوض فيها رأسا [ ص: 406 ]

وقوله يتأتى فيما إذا جعل شقصا من دار مهرا أو ما يضاهيه لأنه لا شفعة عنده إلا فيه ونحن نقول : إن تقوم منافع البضع في النكاح وغيرها بعقد الإجارة ضروري فلا يظهر في حق الشفعة ، وكذا الدم والعتق غير متقوم لأن القيمة ما يقوم مقام غيره في المعنى الخاص المطلوب ولا يتحقق فيهما ، وعلى هذا إذا تزوجها بغير مهر ثم فرض لها الدار مهرا لأنه بمنزلة المفروض في العقد في كونه مقابلا بالبضع ، بخلاف ما إذا باعها بمهر المثل أو بالمسمى لأنه مبادلة مال بمال ، ولو تزوجها على دار على أن ترد عليه ألفا فلا شفعة في جميع الدار عند أبي حنيفة وقالا : تجب في حصة الألف لأنه مبادلة مالية في حقه .

وهو يقول معنى البيع فيه تابع ولهذا ينعقد بلفظ النكاح ولا يفسد بشرط النكاح فيه ، ولا شفعة في الأصل فكذا في التبع ، ولأن الشفعة شرعت في المبادلة المالية المقصودة [ ص: 407 ] حتى أن المضارب إذا باع دارا وفيها ربح لا يستحق رب المال الشفعة في حصة الربح لكونه تابعا فيه قال ( أو يصالح عليها بإنكار ، فإن صالح عليها بإقرار وجبت الشفعة ) قال رضي الله عنه : هكذا ذكر في أكثر نسخ المختصر ، والصحيح أو يصالح عنها بإنكار مكان قوله أو يصالح عليها ، لأنه إذا صالح عنها بإنكار بقي الدار في يده فهو يزعم أنها لم تزل عن ملكه ، وكذا إذا صالح عنها بسكوت لأنه يحتمل أنه بذل المال افتداء ليمينه وقطعا لشغب خصمه ، كما إذا أنكر صريحا ، بخلاف ما إذا صالح عنها بإقرار لأنه معترف بالملك للمدعي ، وإنما استفاده بالصلح فكان مبادلة مالية .

أما إذا صالح عليها بإقرار أو سكوت أو إنكار وجبت الشفعة في جميع ذلك لأنه أخذها عوضا عن حقه في زعمه إذا لم يكن من جنسه فيعامل بزعمه قال ( ولا شفعة في هبة لما ذكرنا ، إلا أن تكون بعوض مشروط ) لأنه بيع انتهاء ، ولا بد من القبض وأن لا يكون الموهوب ولا عوضه شائعا لأنه هبة ابتداء وقد قررناه في كتاب الهبة ، بخلاف ما إذا لم يكن العوض مشروطا في العقد لأن كل واحد منهما هبة مطلقة ، إلا أنه أثيب منها فامتنع الرجوع قال ( ومن باع بشرط الخيار فلا شفعة للشفيع ) لأنه يمنع زوال الملك عن البائع ( فإن أسقط الخيار وجبت الشفعة ) لأنه زال المانع عن الزوال ويشترط الطلب عند سقوط الخيار في الصحيح لأن البيع يصير سببا لزوال الملك عند ذلك .

( وإن اشترى بشرط الخيار وجب الشفعة ) لأنه لا يمنع زوال الملك عن البائع بالاتفاق ، والشفعة تبتنى عليه على ما مر ، وإذا أخذها في الثلث وجب البيع لعجز المشتري عن الرد ، ولا خيار للشفيع لأنه يثبت بالشرط ، [ ص: 408 ] وهو للمشتري دون الشفيع ، وإن بيعت دار إلى جنبها والخيار لأحدهما فله الأخذ بالشفعة أما للبائع فظاهر لبقاء ملكه في التي يشفع بها ، وكذا إذا كان للمشتري وفيه إشكال أوضحناه في البيوع فلا نعيده ، وإذا أخذها كان إجازة منه للبيع ، بخلاف ما إذا اشتراها ولم يرها حيث لا يبطل خياره بأخذ ما بيع بجنبها بالشفعة ، لأن خيار الرؤية لا يبطل بصريح الإبطال فكيف بدلالته ، ثم إذا حضر شفيع الدار الأولى له أن يأخذها دون الثانية لانعدام ملكه في الأولى حين بيعت الثانية

[ ص: 405 ]

التالي السابق


[ ص: 405 ] قوله وإذا ملك العقار بعوض هو مال وجبت فيه الشفعة لأنه أمكن مراعاة شرط الشرع فيه وهو التملك بمثل ما تملك به المشتري صورة أو قيمة على ما مر ) قال صاحب العناية في شرح هذا المقام : قد تقدم أن الشفعة إنما تجب في العقار ، ومن شرطها أن تتملك بعوض هو مال ، لأن مراعاة شرط الشرع وهو التملك بمثل ما ملك المشتري صورة في ذوات الأمثال أو قيمة في ذوات القيم على ما مر في فصل ما يؤخذ به المشفوع واجبة ، وهي إنما تمكن إذا كان العوض مالا ، فإن الشرع قدم الشفيع على المشتري في إثبات حق الأخذ له بذلك السبب لا بإنشاء سبب آخر ولهذا لا تجب في الموهوب ، لأنه لو أخذه أخذه بعوض فكان سببا غير السبب الذي تملك به المتملك ا هـ أقول : لقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يأخذه بلا عوض بالسبب الذي تملك به المتملك وهو الوصية بلا عوض لا يقال : لا يتصور الهبة بدون رضا الواهب والمتملك لا يرضى بخروج الموهوب من يده بلا عوض فلا يملك الشفيع أخذه بلا عوض لأنا نقول : مدار الشفعة على عدم اعتبار رضا المتملك ، وعن هذا قالوا : إن حق الشفعة معدول عن سنن القياس لما فيه من تملك المال على الغير بغير رضاه كما مر في صدر كتاب الشفعة ، فلا تأثير لحديث عدم رضا المتملك بخروج الموهوب من يده بلا عوض في عدم ثبوت حق الشفعة في الموهوب ، فالوجه التام في عدم ثبوت حق الشفعة في الموهوب والموروث وأمثالهما ما ذكر في الكافي وغيره ، وهو أن الشفعة عندنا تختص بمعاوضة مال بمال لأنها ثبتت بخلاف القياس بالآثار في معاوضة مال بمال فيقتصر عليها

( قوله وعند الشافعي تجب فيها الشفعة لأن هذه الأعواض متقومة عنده فأمكن الأخذ بقيمتها ) قال في العناية : وهي مهر المثل ، وأجر المثل في التزويج والخلع والإجارة وقيمة الدار والعبد في الصلح والإعتاق ا هـ أقول : في قوله [ ص: 406 ] وقيمة الدار نظر ، إذ الكلام في قيمة الأعواض التي جعلت بدلا للدار في الصور المذكورة لا في قيمة نفس الدار ، والعوض في صورة الصلح هو دم العمد ، فالواجب عند الشافعي قيمة دم العمد على زعمه لا قيمة الدار لا يقال : لما جعل دم العمد عوضا من الدار صارت قيمته قيمة الدار لأنا نقول : لو اقتضى هذا القدر أن تصير قيمة أحد العوضين قيمة للآخر لكان قيمة الأعواض المذكورة في الصورة المزبورة كلها قيمة الدار لكون كل منهما عوضا من الدار ولم يقل به أحد ، بل وقع التصريح بخلافه في سائر الصور في نفس العناية أيضا ، ثم إن بعض الفضلاء لما تنبه لإجمال ما قلنا قال : كأن الكلام في قيمة الأعواض لا في قيمة الدار والعبد فتأمل .

ا هـ أقول : لم يصب في زيادته العبد وإلحاقه بالدار في المؤاخذة ، فإن العبد مأخوذ في جانب الأعواض المقابلة للدار كما يفصح عنه عبارة الكتاب ، فكون الكلام في قيمة الأعواض لا ينافي اعتبار قيمة العبد في صورة الإعتاق . نعم العوض إعتاق العبد لا نفس العبد ، لكن من يجعل الإعتاق متقوما لا بد له من المصير إلى قيمة العبد في تقويمه ، والكلام هنا على أصله ، وأما التحقيق من قبلنا فسيجيء من بعد

( قوله وكذا الدم والعتق غير متقوم ) قال في العناية : [ ص: 407 ] إنما أفردهما لأن تقومهما أبعد لأنهما ليسا بمالين فضلا عن التقوم ا هـ أقول : فيه بحث ، لأن تمامه يتوقف على كون سائر [ ص: 408 ] الأعواض المذكورة مالا وإن لم تكن متقومة ، وليس الأمر كذلك فإنها أيضا ليست بأموال عندنا ، وقد أفصح عنه قول المصنف فيما قبل وهذه الأعواض ليست بأموال ، وقوله في باب المهر من كتاب النكاح أن المنافع ليست بأموال على أصلنا والحق عندي في تعليل أن تقومهما أبعد أن يقال لأنهما ليسا بمتقومين أصلا : أي لا بالتقوم الضروري ولا بغير الضروري كما مر آنفا

( قوله وفيه إشكال أوضحناه في البيوع فلا نعيده ) قال في النهاية : هذه الحوالة في حق الإشكال غير رائجة ، بل فيه جواب الإشكال لا الإشكال وهو قوله ( ومن اشترى دارا على أنه بالخيار فبيعت دار بجنبها إلخ ) وقيل إذا كانت الحوالة في حق جواب الإشكال رائجة كانت في حق الإشكال كذلك ، لأن الجواب يتضمن السؤال ، وقيل لم يقل في بيوع هذا الكتاب فيجوز أن يكون أوضحه في كفاية المنتهى ، كذا في العناية أخذا من معراج الدرايةأقول : لا يذهب عليك أن قوله فلا نعيده يأبى عن أن يكون مراده بقوله أوضحناه في البيوع إيضاحه في بيوع كفاية المنتهى ، لأن ذكر شيء في كتابه هذا بعد أن ذكره في كفاية المنتهى لا يعد إعادة ، وإلا لزم أن يكون أكثر مسائل هذا الكتاب بل جميعها من قبيل الإعادة لكونها مذكورة في كفاية المنتهى




الخدمات العلمية