الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( فإن أذن له في نوع منها دون غيره فهو [ ص: 288 ] مأذون في جميعها ) وقال زفر والشافعي : لا يكون مأذونا إلا في ذلك النوع ، وعلى هذا الخلاف إذا نهاه عن التصرف في نوع آخر . لهما أن الإذن توكيل وإنابة من المولى ; لأنه يستفيد الولاية من جهته ويثبت الحكم وهو الملك له دون العبد ، ولهذا يملك حجره فيتخصص بما خصه به كالمضارب . ولنا أنه إسقاط الحق وفك الحجر على ما بيناه ، وعند ذلك تظهر مالكية العبد فلا يتخصص بنوع دون نوع ، بخلاف الوكيل ; لأنه يتصرف في مال غيره فيثبت له الولاية من جهته ، وحكم التصرف وهو الملك واقع للعبد حتى كان له أن يصرفه إلى قضاء الدين [ ص: 289 ] والنفقة ، وما استغنى عنه يخلفه المالك فيه .

التالي السابق


( قوله وعلى هذا الخلاف إذا نهاه عن التصرف في نوع آخر ) يعني إذا نهاه عن التصرف في نوع آخر من التجارة بعد أن أذن له في نوع مخصوص منها فالخلاف فيه كالخلاف فيما إذا سكت عن النهي عن التصرف في نوع آخر منها بعد أن أذن له في نوع مخصوص منها .

والحاصل أنه سواء نهى عن غير ذلك النوع أو سكت عنه يكون مأذونا في جميع التجارات ، خلافا لزفر والشافعي كما ذكر في الإيضاح ونقل عنه في النهاية ومعراج الدراية . قال صاحب العناية في هذا المقام : وكذا لو كان أذن له إذنا عاما ثم نهاه عن نوع ا هـ .

أقول : هذا الشرح لا يطابق المشروح ، إذ المراد به ما قررناه آنفا يدل عليه لفظ آخر في قول المصنف إذا نهاه عن التصرف في نوع آخر ، ويأبى ذلك ما قاله صاحب العناية قطعا ، كيف ومسألة الإذن العام قد مرت مع متفرعاتها في الصحيفة الأولى ، ونحن الآن بصدد بيان مسألة الإذن في نوع خاص فلا معنى لخلطه حديث الإذن العام هاهنا كما لا يخفى .

( قوله ولنا أنه إسقاط وفك الحجر على ما بيناه ، وعند ذلك تظهر مالكية العبد فلا يتخصص بنوع دون نوع ) أقول : لقائل أن يقول [ ص: 289 ] إن أريد أنه إسقاط الحق بجملته وفك الحجر بذمته فهو ممنوع . كيف ولو كان كذلك لصح هبته وإقراضه ونحوهما من التبرعات ، وليس كذلك قطعا كما سيأتي في الكتاب ، وإن أريد أنه إسقاط الحق وفك الحجر في بعض التصرفات فهو مسلم ، لكن لا يثبت به المدعى إذ لا يلزم منه إسقاطه وفكه في جميع التصرفات حتى يلزم أن يكون مأذونا له في جميعها كما هو المدعى .

فإذا قلت : المراد أنه إسقاط الحق وفك الحجر في بعض معين من التصرفات وهو جنس التجارة والمدعى كونه مأذونا له في جميع أنواع هذا الجنس لا في جميع أنواع أجناس التصرفات فلا يرد النقض بالتبرعات ولا عدم ثبوت المدعى . قلت : فلقائل أن يقول : إن أريد بقوله فلا يتخصص بنوع دون نوع أنه لا يتخصص بذلك إذا أطلقه ولم يقيده بنوع فهو مسلم ، لكن لا يجدي طائلا ; لأن ما نحن فيه صورة التقييد ، وإن أريد بذلك أنه لا يتخصص بنوع دون نوع وإن قيده بذلك فهو ممنوع ، كيف وهلا يتوقف تمامه على أول المسألة وهو أن يكون الإذن في نوع من التجارة إذنا في جميعها فيؤدي إلى المصادرة على المطلوب .

فإن قلت : علل صاحب العناية قول المصنف فلا يتخصص بنوع دون نوع بقوله لكون التخصيص إذ ذاك تصرفا في ملك الغير وهو لا يجوز ا هـ فلا مصادرة على المطلوب . قلت : ذاك التعليل ليس بتام ، إذ لقائل أيضا أن يقول : إنما يكون التخصيص تصرفا في ملك الغير أن لو أطلق الإذن أولا فيتحقق إسقاط الحق وفك الحجر على الإطلاق وظهر مالكية العبد في التجارات مطلقا ثم خصصه بنوع منها ، وما نحن فيه ليس كذلك . إذ الكلام فيما إذا قيده أولا فقال أذنت لك في هذا النوع فقط ، [ ص: 290 ] ولا شك أن مثل هذا الكلام كلام واحد ليس لأوله حكم مستقل ولآخره الذي هو قيده حكم آخر ، بل للمجموع حكم واحد يتم أوله بآخره ، فمن أين يلزم التصرف في ملك الغير ؟ تأمل جدا . ثم قال صاحب العناية : ونوقض بالإذن في النكاح ، فإنه فك الحجر وإسقاط الحق ، وإذا أذن للعبد أن يتزوج فلانة ليس له أن يتزوج غيرها .

وأجيب بأن الإذن فيه تصرف في ملك نفسه لا في ملك الغير ; لأن النكاح تصرف مملوك للمولى ; لأنه لا يجوز إلا بولي ، والرق أخرج العبد من أهلية الولاية على نفسه فكانت الولاية للمولى ، ولهذا جاز أن يجبره عليه فكان العبد كالوكيل والنائب عن مولاه فيتخصص بما خصه به من التصرف . [ ص: 291 ] فإن قيل : قد تقدم أن الضرر اللاحق بالمولى يمنع الإذن وقد يتضرر المولى بغير ما خصه به من التصرف لجواز أن يكون العبد عالما بالتجارة في البز دون الخز . أجيب بأنه ضرر غير متحقق ، ولئن كان فله مدفع وهو التوكيل به على أن جواز التصرف بالغبن الفاحش عند أبي حنيفة يدفع ذلك وبالجملة إذا ثبت بالدليل أنه يتصرف بأهليته ومالكيته فليس السؤال واردا ، إلى هنا كلامه . أقول : إن قوله وبالجملة إلخ ليس بشيء . أما أولا فلأن حاصل السؤال أنه قد يلحق الضرر بالمولى عند تصرف العبد بغير ما خصه به فينبغي أن لا يجوز ، ولا يخفى أن ثبوت كون العبد متصرفا بأهليته ومالكيته لا يدفع ورود ذلك ، إذ لا شك أن المتصرف بأهليته ومالكيته لا يملك الإضرار بالغير ، إذ لا إضرار في الإسلام .

وأما ثانيا فلأنه يرد السؤال بطريق المعارضة على ما ثبت بالدليل لا محالة ، وإلا يلزم أن ينسد باب المعارضة بالكلية ; لأنها إقامة الدليل على خلاف ما أقام عليه الخصم الدليل مع أنها طريق مقبول لم ينكره أحد ، ولا شك أن السؤال المزبور معارضة ، فالوجه في الجواب عنه ما ذكره في أوائل جوابه دون [ ص: 292 ] قوله هذا




الخدمات العلمية