الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( والشفعة تجب بعقد البيع ) ومعناه بعده لا أنه هو السبب ; لأن سببها الاتصال على ما بيناه ، [ ص: 380 ] والوجه فيه أن الشفعة إنما تجب إذا رغب البائع عن ملك الدار ، والبيع يعرفها ولهذا يكتفى بثبوت البيع في حقه حتى يأخذها الشفيع إذا أقر البائع بالبيع وإن كان المشتري يكذبه . .

التالي السابق


( قوله والشفعة تجب بعقد البيع ومعناه بعده ) أقول كون معناه بعده محل كلام من حيث العربية ، فإن مجيء الباء بمعنى بعد لم يذكر في مشاهير كتب العربية ، فالأظهر أن تكون الباء في قوله تجب بعقد البيع بمعنى مع للمصاحبة والمقارنة ، فإنه كثير شائع مذكور في عامة معتبرات كتب الأدب ، والمعنى المقصود هاهنا يحصل به أيضا بلا كلفة كما لا يخفى على الفطن المتأمل ، فلا مقتضى للعدول عنه ( قوله لا أنه هو السبب ; لأن سببها الاتصال على ما بيناه ) يعني في قوله ولنا أنهم استووا في سبب الاستحقاق وهو الاتصال كما ذكر في العناية وكثير من الشروح ، أو في قوله ; لأن الاتصال على هذه الصفة إنما انتصب سببا فيه لدفع ضرر الجوار كما ذكر في الكفاية ، قال صاحب العناية : وهذا قول عامة المشايخ ; لأنها إنما تجب لدفع ضرر الدخيل عن الأصيل بسوء المعاملة والمعاشرة .

والضرر إنما يتحقق باتصال ملك البائع بملك الشفيع .

ولهذا قلنا بثبوتها للشريك في حقوق المبيع وللجار لتحقق ذلك ا هـ .

أقول : في قولهم والضرر إنما يتحقق باتصال ملك البائع بملك الشفيع مناقشة ; لأنهم إن أرادوا بذلك أن الضرر إنما يتحقق بمجرد اتصال ملك البائع بملك الشفيع يلزمهم أن يتحقق الضرر للشفيع قبل أن يبيع البائع ملكه لتحقيق اتصال ملكه بملك الشفيع قبل البيع فيلزمهم أن تجب الشفعة قبله أيضا لدفع ذلك الضرر .

وليس كذلك قطعا . وإن أرادوا به أن الضرر إنما يتحقق بمدخلية اتصال ملك البائع بملك الشفيع فهذا لا ينافي مدخلية البيع أيضا فلا يلزم أن يكون سببها هو الاتصال كما ادعوا فليتأمل .

ثم قال صاحب العناية : ورد بأنه لو كان الاتصال هو السبب لجاز تسليمها قبل البيع لوجوده بعد السبب ; ألا يرى أن الإبراء عن سائر الحقوق بعد وجود سبب الوجوب صحيح . وأجيب بأن البيع شرط ولا وجود للمشترط قبله .

ورد بأنه لا اعتبار لوجود الشرط بعد تحقق السبب في حق صحة التسليم كأداء الزكاة قبل الحول وإسقاط الدين المؤجل قبل حلول الأجل .

والجواب أن ذلك شرط الوجوب ولا كلام فيه ، وإنما هو في شرط الجواز وامتناع المشروط قبل تحقق الشرط غير خاف على أحد ا هـ كلامه . أقول : لقائل أن يقول : امتناع تحقق المشروط قبل تحقق الشرط ضروري ، سواء كان المشروط هو الجواز أو الوجوب ، فإذا كان عدم تحقق شرط الجواز مانعا عن اتصال السبب بالمحل كما قالوا لزم [ ص: 380 ] أن يكون عدم تحقق شرط الوجوب أيضا مانعا عن ذلك فلزم أن لا يكون الواجب متأديا بأداء الزكاة قبل الحول لعدم تحقيق شرط الوجوب قبله ، وكذا الحال في إسقاط الدين المؤجل قبل حلول الأجل مع أن المصرح به في موضعه خلاف ذلك .

ثم أقول : يمكن أن يجاب بأن المراد بالوجوب في قوله إن ذلك شرط الوجوب هو وجوب الأداء دون نفس الوجوب ، فإن نفس وجوب الزكاة يتحقق بملك النصاب النامي ، وحولان الحول إنما هو شرط وجوب أدائها كما صرحوا به في كتاب الزكاة ، وكذا حلول الأجل في الديون المؤجلة إنما هو شرط وجوب أدائها لا شرط نفس وجوبها ، واللازم أن لا يتحقق وجوب الأداء قبل الحول وقبل حلول الأجل ، ولا يلزم منه أن لا يكون الواجب بنفس الوجوب متأديا بأداء الزكاة قبل حلول الحول وبأداء الدين قبل حلول الأجل ، والمصرح به في موضعه إنما هو تأدي الواجب بنفس الوجوب لا غير .

( قوله والوجه فيه أن الشفعة إنما تجب إذا رغب البائع من ملك الدار والبيع يعرفها ) أي يعرف رغبة البائع عن ملك الدار ، وفسر صاحب العناية ضمير فيه في قوله والوجه فيه بهذا التأويل حيث قال : والوجه فيه : أي هذا التأويل ، وتبعه العيني .

أقول : لا يذهب على ذي فطرة سليمة أنه لا مدخل للتأويل الذي ذكره المصنف بقوله ومعناه بعده لا أنه هو السبب في جريان هذا الوجه ، إذ هو جار بعينه على تقدير أن يكون معنى كلام القدوري أن البيع هو السبب كما لا يخفى على الفطن ، فلا حاجة إلى بناء هذا الوجه على ذلك التأويل بإرجاع ضمير فيه إليه ، بل لا وجه له عند التحقيق ; لأن المصنف علل تأويله المذكور بقوله ; لأن سببها الاتصال على ما بيناه ، فما معنى أن يكون قوله والوجه فيه تعليلا له بعد ذلك ؟ فالحق أن قوله والوجه فيه إلخ متصل بأول الكلام وهو قوله والشفعة تجب بعقد البيع ، ومن عادة المصنف أنه إذا كان في عبارة المسألة عقدة يحلها ثم يذكر دليل المسألة وهاهنا أيضا فعل ذلك .

( قوله ولهذا يكفي بثبوت البيع في حقه حتى يأخذها الشفيع إذا أقر البائع بالبيع وإن كان المشتري يكذبه ) أقول : فيه تأمل ، إذ قد تقرر فيما مر أن علة ثبوت حق الشفعة عندنا ، إنما هي دفع ضرر الدخيل عن الأصيل بسوء المعاملة والمعاشرة ، والظاهر أن ذلك الضرر إنما يتحقق عند ثبوت البيع في حق المشتري ; لأنه هو الدخيل لا عند ثبوته في حق البائع مع تكذيبه المشتري ; لأن البائع أصيل كالشفيع ، فمن أين يتحقق ضرر الدخيل عند عدم ثبوت البيع في حق المشتري حتى يثبت حق الشفعة لدفع ذلك الضرر تفكر .

قال في العناية : ونوقض بما إذا باع بشرط الخيار له أو وهب وسلم فإن الرغبة عنه قد عرفت وليس للشفيع الشفعة .

وأجيب بأن في ذلك ترددا لبقاء الخيار للبائع ، بخلاف الإقرار فإنه يخبر به عن انقطاع ملكه عنه بالكلية فعومل به كما [ ص: 381 ] زعمه ، والهبة لا تدل على ذلك ; لأن غرض الواهب المكافأة ولهذا كان له الرجوع فلا ينقطع عنه حقه بالكلية انتهى .

أقول : في الجواب عن النقض بصورة الهبة بحث ; لأنه إن كان مدار ذلك على مجرد كون غرض الواهب المكافأة لا يستقيم أصلا ، فإن كون غرضه المكافأة لا ينافي رغبته عن ملكه ; ألا يرى أن غرض البائع أيضا المكافأة بالثمن مع أنه لا ينافي رغبته عن المبيع بل يدل عليها كما ذكروا وإن كان مداره على صحة الرجوع للواهب وعدم انقطاع حقه عن الموهوب بالكلية لا يدفع النقض بالهبة التي لا يصح الرجوع فيها .

كما إذا وهب لقريبه المحرم أو لزوجته وأخذ العوض عنها بغير شرط في العقد ، إذ غير ذلك مما يتحقق فيه المانع عن الرجوع ، فإن في هذه الصور لا يصح رجوع الواهب وينقطع حقه عن الموهوب بالكلية كانقطاع حق البائع عن المبيع مع أنه لا شفعة فيها فبقي النقض بها




الخدمات العلمية