الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 185 ] كتاب الوصايا

                                                                                                                                            إن الله تعالى قدر لخلقه آجالا وبسط لهم فيها آمالا ، ثم أخفى عليهم حلول آجالهم وحذرهم غرور آمالهم ، فحقيق على الإنسان أن يكون مباهيا للوصية حذرا من حلول المنية . قال الله تعالى : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين [ البقرة : 180 ] ، فمن بدله بعدما سمعه [ البقرة : 181 ] . إلى قوله تعالى : غفور رحيم [ البقرة : 182 ] .

                                                                                                                                            أما قوله تعالى : كتب عليكم فيعني : فرض عليكم . وقوله إذا حضر أحدكم الموت ، يعني : أسباب الموت . " إن ترك خيرا " يعني : مالا . قال مجاهد : الخير في القرآن كله المال : وإنه لحب الخير لشديد [ العاديات : 8 ] المال فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي [ ص : 32 ] المال . فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا [ النور : 33 ] المال .

                                                                                                                                            وقال شعيب : إني أراكم بخير [ هود : 184 ] ، يعني : الغنى . وقال الشافعي : الخير كلمة تعرف ما أريد بها المخاطبة .

                                                                                                                                            قال الله تعالى : أولئك هم خير البرية [ البينة : 7 ] . فقلنا : إنهم خير البرية بالإيمان والأعمال الصالحة لا بالمال . وقال تعالى : أولئك هم خير فقلنا إن الخير المنفعة بالأجر وقال : إن ترك خيرا الوصية [ البقرة : 180 ] . فقلنا : إنه إن ترك مالا : لأن المال هو المتروك ، ثم قال الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف وفي الأقربين في هذا الموضع ثلاثة تأويلات :

                                                                                                                                            أحدها : أنهم الأولاد الذين لا يسقطون في الميراث ، دون غيرهم من الأقارب الذين يسقطون .

                                                                                                                                            والثاني : أنهم الورثة من الأقارب كلهم .

                                                                                                                                            والثالث : أنهم كل الأقارب من وارث وغير وارث ، فدل ذلك على وجوب الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف .

                                                                                                                                            واختلفوا في ثبوت حكمها فقال بعضهم : كان حكمها ثابتا في الوصية للوالدين والأقربين حقا واجبا ، وفرضا لازما ، فلما نزلت آية المواريث نسخ منها الوصية للوالدين وكل [ ص: 186 ] وارث ، وبقي فرض الوصية لغير الورثة في الأقربين على حاله وهو قول طاوس وقتادة والحسن البصري وجابر بن زيد .

                                                                                                                                            فإن وصى بثلثه لغير قرابته فقد اختلفوا ، فقال طاوس : يرد الثلث كله على قرابته ، وقال قتادة : يرد ثلث الثلث على قرابته وثلثا الثلث لمن أوصى له به .

                                                                                                                                            وقال جابر بن زيد : رد ثلثا الثلث على قرابته وثلث الثلث لمن أوصى به .

                                                                                                                                            واختلفوا في قدر المال الذي يجب عليه أن يوصي منه على أقاويل :

                                                                                                                                            أحدها : أنه ألف درهم ، وتأولوا قوله تعالى : إن ترك خيرا [ البقرة : 183 ] ألف درهم ، وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

                                                                                                                                            والثاني : خمسمائة ، وهذا قول النخعي .

                                                                                                                                            والثالث : يجب في قليل المال وكثيره وهو قول الزهري ، فهذا قول من جعل حكم الآية ثابتا . وذهب الفقهاء وجمهور أهل التفسير إلى أنها منسوخة بالمواريث . واختلفوا بأية آي نسخت ، فقال عبد الله بن عباس : نسخت بآية الوصايا بقوله تعالى : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون [ النساء : 7 ] وقال آخرون : نسخت بقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله [ الأنفال : 75 ] . وسنذكر دليل من أثبتها ومن نسخها فيما بعد .

                                                                                                                                            ثم قال : فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه [ البقرة : 182 ] وأصل الجنف في كلام العرب : الجور والعدول عن الحق . ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                            هم المولى وقد جنفوا علينا وإنا من لقائهم لزور



                                                                                                                                            وفي تأويل قوله تعالى : جنفا أو إثما ثلاثة أقاويل :

                                                                                                                                            أحدها : أن الجنف : الميل والإثم : أن يأثم في إثرة بعضهم على بعض ، وهذا قول عطاء وابن دريد .

                                                                                                                                            والثاني : أن الجنف : الخطأ ، والإثم : العمد .

                                                                                                                                            والثالث : أن الرجل يوصي لولد بنيه وهو يرد بنيه ، وهذا قول طاوس .

                                                                                                                                            واختلفوا في تأويل قوله تعالى : فأصلح بينهم فلا إثم عليه [ البقرة : 182 ] على أربعة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن تأويلها : فمن حضر مريضا وهو يوصي عند إشرافه على الموت ، فخاف أن يخطئ في وصيته ، فيفعل ما ليس له أو يعمد جورا فيها فيأمر بما ليس له ، فلا حرج [ ص: 187 ] على من حضره ، فسمع ذلك منه أن يصلح بينه وبين ورثته ، بأن يأمره بالعدل في وصيته ، وهذا قول مجاهد .

                                                                                                                                            والثاني : أن تأويلها : فمن خاف من أوصياء الميت جنفا في وصيته التي أوصى بها الميت ، فأصلح بين ورثته وبين الموصى لهم فيما أوصى لهم به ، فيرد الوصية إلى العدل والحق ، فلا إثم عليه ، هذا قول ابن عباس وقتادة .

                                                                                                                                            والثالث : أن تأويلها : فمن خاف من موص جنفا أو إثما في عطيته لورثته عند حضور أجله ، فأعطى بعضهم دون بعض ، فلا إثم على من أصلح بين الورثة في ذلك ، وهذا قول عطاء .

                                                                                                                                            والرابع : أن تأويلها : فمن خاف من موص جنفا أو إثما في وصيته لمن لا يرثه لم يرجع نفعه على من يرثه فأصلح بين ورثته فلا إثم عليه ، وهذا قول طاوس .

                                                                                                                                            وقال تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله [ النساء : 12 ] ، فلا ضرار في الوصية أن يوصي بأكثر من الثلث ، والإضرار في الدين أن يبيع بأقل من ثمن المثل ويشتري بأكثر منه .

                                                                                                                                            وقد روى عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الإضرار في الوصية من الكبائر .

                                                                                                                                            وقال تعالى : ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب [ البقرة : 132 ] الآية .

                                                                                                                                            وروى الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين ، إلا ووصيته عند رأسه مكتوبة .

                                                                                                                                            وروى شهر بن حوشب عن أبي هريرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة سبعين سنة ، ثم يوصي فيجنف في وصيته فيختم له بشر عمله ، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار سبعين سنة ، ثم يوصي فيعدل في وصيته ، فيختم له بخير عمله . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أعجز الموصي أن يوصي كما أمره الله .

                                                                                                                                            وروى أبو قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل المدينة سأل عن البراء بن معرور فقالوا : [ ص: 188 ] هلك وأوصى لك بثلث ماله ، فقبله ورده على ورثته . وقيل إنه كان أول من أوصى بالثلث ، وأول من وصى بأن يدفن إلى القبلة ، ثم صارا جميعا سنة متبوعة .

                                                                                                                                            والوصية على ثلاثة أقسام : قسم لا يجوز ، وقسم يجوز ولا يجب ، وقسم مختلف في وجوبها .

                                                                                                                                            فأما الذي لا يجوز : فالوصية للوارث .

                                                                                                                                            وروى شرحبيل بن مسلم قال : سمعت أبا أمامة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث .

                                                                                                                                            وأما التي تجوز ولا تجب فالوصية للأجانب ، وهذا مجمع عليه ، فقد أوصى البراء بن معرور للنبي - صلى الله عليه وسلم - بثلث ماله فقبله ، ثم رده على ورثته .

                                                                                                                                            وأما التي اختلف فيها : فالوصية للأقارب .

                                                                                                                                            ذهب أهل الظاهر مع من قدمنا ذكره في تفسير الآية إلى وجوبها للأقارب ، تعلقا بظاهر قوله تعالى : الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين [ البقرة : 180 ] وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من مات من غير وصية ، مات ميتة جاهلية .

                                                                                                                                            وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة .

                                                                                                                                            والدليل على أنها غير واجبة للأقارب والأجانب ، ما روى ابن عباس وعائشة وابن أبي ليلى - رضي الله عنهم - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوص . وروى الشافعي عن سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص قال : مرضت عام الفتح مرضا أشرفت منه على الموت ، فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني ، فقلت يا رسول الله : إن لي مالا كثيرا ، وليس يرثني إلا ابني ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : لا ، قلت : فبالشطر . قال : لا ، قلت : فالثلث ؟ قال : الثلث . والثلث كثير ، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خيرا من أن تدعهم عالة يتكففون الناس

                                                                                                                                            فاقتصر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوصية على ما جعله خارجا مخرج الجواز لا مخرج الإيجاب ، ثم بين أن غنى الورثة بعده أولى من فقرهم .

                                                                                                                                            [ ص: 189 ] وروى أبو زرعة عن أبي هريرة قال : قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ، أي الصدقة أفضل ؟ قال : أن تتصدق وأنت صحيح حريص ، تأمل الغنى وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان

                                                                                                                                            فلما جعل الصدقة في حال الصحة أفضل منها عند الموت ، ثم لم تكن في حال الصحة واجبة فأولى ألا تكون عند الموت واجبة .

                                                                                                                                            وروى ابن أبي ذؤيب عن شرحبيل عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق بمائة عند موته ، ولأن الوصية لو وجبت لا جبر عليها ، ولأخذت من ماله إن امتنع منها كالديون والزكوات ، ولأن الوصايا عطايا فأشبهت الهبات .

                                                                                                                                            فأما الآية فمنع الوالدين من الوصية مع تقديم ذكرها فيها دليل على نسخها .

                                                                                                                                            وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : من مات من غير وصية مات ميتة جاهلية فمحمول على أحد أمرين .

                                                                                                                                            وأما على من كانت عليه ديون حقوق لا يوصل إلى أربابها إلا بالوصية ، فتصير الوصية ذكرها وأداؤها واجبة .

                                                                                                                                            وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده فهذا خارج منه مخرج الاحتياط ، ومعناه : ما الحزم لامرئ . على أن نافعا قال لابن عمر بعد أن روى هذا الحديث حين حضره الموت : هلا أوصيت ؟ قال : أما مالي فالله أعلم ما كنت أفعل فيه في حياتي ، وأما رباعي ودوري فما أحب أن يشارك ولدي فيها أحد . فلو علم وجوب الوصية لما رواه ولما تركها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية