الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1437 [ ص: 117 ] 107 - حدثنا عبد الله بن منير، سمع يزيد العدني قال: حدثنا سفيان، عن زيد بن أسلم قال: حدثني عياض بن عبد الله بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام، أو صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، أو صاعا من زبيب، فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: أرى مدا من هذا يعدل مدين.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "أو صاعا من زبيب" وعبد الله بن منير -بضم الميم وكسر النون وبالراء - مر في باب الوضوء، ويزيد -من الزيادة- ابن أبي حكيم -بفتح الحاء - العدني -بالمهملتين المفتوحتين وبالنون- مات سنة ست وأربعين ومائة، وسفيان هو الثوري.

                                                                                                                                                                                  قوله: "عن أبي سعيد" وقد تقدم من رواية مالك بلفظ أنه سمع أبا سعيد.

                                                                                                                                                                                  قوله: "كنا نعطيها" أي: صدقة الفطر.

                                                                                                                                                                                  قوله: "في زمان النبي صلى الله عليه وسلم" هذا حكمه حكم الرفع؛ لإضافته إلى زمنه صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  وفيه إشعار بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم اطلع على ذلك وقرره له، خصوصا في هذه الصورة التي كانت توضع عنده وتجمع بأمره وهو الآمر بقبضها وتفريقها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "صاعا من طعام" قال الخطابي: المراد بالطعام هنا الحنطة، وأنه اسم خاص له، ويستعمل في الحنطة عند الإطلاق، حتى إذا قيل: اذهب إلى سوق الطعام، فهم منه "سوق القمح" وإذا غلب العرف نزل اللفظ عليه، ورد عليه ابن المنذر بأن هذا غلط منه، وذلك أن أبا سعيد أجمل الطعام ثم فسره ثم أكد كلامه بما رواه حفص بن ميسرة، عن زيد، عن عياض على ما يأتي في الباب الذي يلي هذا الباب.

                                                                                                                                                                                  وفيه "وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر".

                                                                                                                                                                                  (قلت): ويؤيد هذا ما رواه ابن خزيمة من طريق فضيل بن غزوان، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهم قال: لم تكن الصدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التمر والزبيب والشعير، ولم تكن خاصة.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن المنذر أيضا: لا نعلم في القمح خبرا ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه، ولم يكن البر بالمدينة في ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه، فلما كثر في زمن الصحابة رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من شعير، وهم الأئمة، فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم، ثم روى بإسناده عن عثمان وعلي وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهم بأسانيد صحيحة: أنهم رأوا أن في زكاة الفطر نصف صاع من قمح .

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم: لكن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة خلافا للطحاوي.

                                                                                                                                                                                  (قلت): روى الطحاوي أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه من بعده، وعن تابعيهم من بعدهم في أن صدقة الفطر من الحنطة نصف صاع، ومما سوى الحنطة صاع، ثم قال: ما علمنا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من التابعين روى عنه خلاف ذلك. فلا ينبغي لأحد أن يخالف ذلك؛ إذ كان قد صار إجماعا في زمنأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم إلى زمن من ذكرنا من التابعين، وكان قد ذكر النخعي ومجاهدا وسعيد بن المسيب والحكم بن عيينة وحماد بن أبي سليمان وعبد الرحمن بن القاسم، ونهض هذا القائل فقال: فلا إجماع في المسألة خلافا للطحاوي وسنده في هذا هو أن أبا سعيد وابن عمر لم يوافقا على ذلك.

                                                                                                                                                                                  (قلت): أما أبو سعيد فإنه لم يكن يعرف في الفطرة إلا التمر والشعير والأقط والزبيب، والدليل عليه ما روي عنه في رواية "كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر أو صاعا من شعير" الحديث "لا نخرج غيره".

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): في روايته الأخرى "كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام".

                                                                                                                                                                                  (قلت): قد بينت فيما مضى أن الطعام اسم لما يطعم مما يؤكل ويقتات فيتناول الأصناف التي ذكرها في حديثه.

                                                                                                                                                                                  وجواب آخر أن أبا سعيد إنما أنكر على معاوية على إخراجه المدين من القمح؛ لأنه ما كان يعرف القمح في الفطرة، وكذلك ما نقل عن ابن عمر.

                                                                                                                                                                                  وجواب آخر أن أبا سعيد كان يخرج النصف الآخر تطوعا.

                                                                                                                                                                                  وقال هذا القائل أيضا: أما من جعل نصف صاع فيها بدل صاع من شعير فقد فعل ذلك بالاجتهاد، وفي حديث أبي سعيد ما كان عليه من شدة الاتباع والتمسك بالآثار وترك العدول إلى الاجتهاد مع وجود النص.

                                                                                                                                                                                  (قلت): مع وجود الأحاديث الصحيحة الصريحة أن الصدقة من الحنطة نصف صاع كيف يكون الاجتهاد وأبو سعيد هو الذي اجتهد حتى جعل الطعام برا مع قوله: "كنا نخرج على عهد [ ص: 118 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر أو صاعا من شعير" الحديث "ولا نخرج غيره" ومع مخالفته الآثار التي فيها نصف صاع من بر كيف ترك العدول إلى الاجتهاد؟!!

                                                                                                                                                                                  وقوله: "مع وجود النص" غير مسلم؛ لأنه لم يكن عنده نص غير "صاع من طعام" ولم يكن عنده نص صريح على أن الصدقة من البر صاع.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): كيف تقول: "ولم يكن عنده نص صريح على أن الصدقة من البر صاع" وقد روى الحاكم حديثه.

                                                                                                                                                                                  وفيه " أو صاعا من حنطة " ؟!

                                                                                                                                                                                  (قلت): ذكر ابن خزيمة أن ذكر الحنطة في هذا الخبر غير محفوظ، ولا أدري ممن الوهم. وقول الرجل له: "أو مدين من قمح" دال على أن ذكر الحنطة في أول الخبر خطأ ووهم؛ إذ لو كان صحيحا لم يكن لقوله: "أو مدين من قمح" معنى، وقد عرف تساهل الحاكم في تصحيح الأحاديث المدخولة، وكذلك أشار أبو داود في (سننه) أن هذا ليس بمحفوظ، وقد ذكرنا هذا فيما مضى مفصلا.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية