الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1464 132 - حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن سعيد بن جبير، قال كان ابن عمر رضي الله عنهما يدهن بالزيت، فذكرته لإبراهيم، قال: ما تصنع بقوله، حدثني الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إن وبيص هذا الطيب كان من الطيب الذي تطيب به صلى الله عليه وسلم عند إرادة الإحرام.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله): وهم ثمانية، كلهم قد ذكروا، ومحمد بن يوسف هو الفريابي، وسفيان هو الثوري، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، والأسود هو ابن يزيد، ورجال هذا الإسناد كلهم كوفيون ما خلا ابن عمر.

                                                                                                                                                                                  (ذكر من أخرجه غيره):

                                                                                                                                                                                  أخرجه مسلم في الحج عن قتيبة. وعن إسحاق بن إبراهيم.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن الصباح البزار.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه النسائي فيه عن أحمد بن منصور. وعن محمد بن عبد الله المخرمي.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الطحاوي من ثمانية عشر طريقا عن الأسود عن عائشة مثل رواية البخاري، غير أن لفظه: "في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم". وعن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة أنها كانت تطيب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأطيب ما تجد من الطيب، قالت: حتى أرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته.

                                                                                                                                                                                  وعن عروة، عن عائشة قالت: "طيبت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأطيب ما أجد".

                                                                                                                                                                                  وعن القاسم عنها قالت: "طيبت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيدي لإحرامه قبل أن يحرم".

                                                                                                                                                                                  وعن ابن عمر عنها قالت: "كنت أطيب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالغالية الجيدة عند إحرامه".

                                                                                                                                                                                  وعن القاسم عنها قالت: "طيبت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لحرمه حين أحرم".

                                                                                                                                                                                  وعن عطاء عنها: "طيبت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للحل والإحرام".

                                                                                                                                                                                  وفي رواية الترمذي من حديث عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: [ ص: 156 ] "طيبت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك".

                                                                                                                                                                                  وروى ابن أبي شيبة عن شريك، عن أبي إسحاق، عن الأسود عنها: "كان يتطيب قبل أن يحرم فيرى أثر الطيب في مفرقه بعد ذلك بثلاث". وروى أيضا عن ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن إبراهيم، عن الأسود، عنها: (رأيت وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث وهو محرم). وعند النسائي: (بعد ثلاث وهو محرم) وفي أخرى: (في أصول شعره) وفي لفظ: (إذا أراد أن يحرم ادهن بأطيب دهن يجده حتى أرى وبيصه في رأسه ولحيته) وعند الدارقطني من حديث ابن عقيل، عن عروة، عنها: (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي وأشنان، ودهنه بزيت غير كثير).

                                                                                                                                                                                  وفي مسند أبي محمد الدارمي: (طيبت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لحرمه وطيبته بمنى قبل أن يفيض) وعند أبي علي الطوسي: (طيبته قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك).

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: (يدهن بالزيت) أي: عند الإحرام بشرط أن لا يكون مطيبا.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: يدهن بالزيت، أي: لا يتطيب، وتقدم في (باب من تطيب في كتاب الغسل) أن ابن عمر قال: "ما أحب أن أصبح محرما أنضح طيبا".

                                                                                                                                                                                  قوله: (فذكرته) أي: قال منصور: ذكرت امتناع ابن عمر من التطيب لإبراهيم النخعي.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ما تصنع بقوله؟) أي: بقول ابن عمر، أي: ماذا تصنع بقوله حيث ثبت ما ينافيه من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: يجوز أن يكون الضمير في "بقوله" عائدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (فإن قلت): هذا فعل الرسول، وتقريره لا قوله.

                                                                                                                                                                                  (قلت): فعله في بيان الجواز كقوله.

                                                                                                                                                                                  قوله: (كأني أنظر) أرادت بذلك قوة تحققها لذلك، بحيث إنها لشدة استحضارها له كأنها ناظرة إليه.

                                                                                                                                                                                  قوله: (إلى وبيص) بفتح الواو، وكسر الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره صاد مهملة، وهو البريق، والمراد أثر الطيب لا جرمه.

                                                                                                                                                                                  وقال الإسماعيلي: الوبيص زيادة على البريق، والمراد به التلألؤ، وهو يدل على وجود عين قائمة لا الريح فقط.

                                                                                                                                                                                  قوله: (في مفارق) جمع مفرق، وهو وسط الرأس، وإنما جمع تعميما لجوانب الرأس التي يفرق فيها.

                                                                                                                                                                                  وقال الجوهري: قولهم للمفرق مفارق، كأنهم جعلوا كل موضع منه مفرقا.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وهو محرم) الواو فيه للحال.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه): احتج به أبو حنيفة، وأبو يوسف، وزفر في أن المحرم إذا تطيب قبل إحرامه بما شاء من الطيب مسكا كان أو غيره - فإنه لا بأس به، ولا شيء عليه، سواء كان مما يبقى عليه بعد إحرامه أو لا، ولا يضره بقاؤه عليه، وبه قال الشافعي وأصحابه، وأحمد، والثوري، والأوزاعي، وهو قول عائشة راوية الحديث، وسعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن الزبير، وابن جعفر، وأبي سعيد الخدري، وجماعة من التابعين بالحجاز والعراق.

                                                                                                                                                                                  وفي (شرح المهذب) استحبه عند إرادة الإحرام معاوية، وأم حبيبة، وابن المنذر، وإسحاق، وأبو ثور، ونقله ابن أبي شيبة عن عروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وإبراهيم في رواية، وذكره ابن حزم عن البراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبي ذر، والحسين بن علي، وابن الحنفية، والأسود، والقاسم، وسالم، وهشام بن عروة، وخارجة بن زيد، وابن جريج.

                                                                                                                                                                                  وقال آخرون منهم: عطاء، والزهري، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، والحسن: لا يجوز أن يتطيب المحرم قبل إحرامه بما يبقى عليه رائحته بعد الإحرام، وإذا أحرم حرم عليه الطيب حتى يطوف بالبيت، وإليه ذهب محمد بن الحسن، واختاره الطحاوي، وهذا مذهب عمر، وعثمان، وابن عمر، وعثمان بن العاص.

                                                                                                                                                                                  وقال الطرطوشي: يكره الطيب المؤنث كالمسك، والزعفران، والكافور، والغالية، والعود ونحوها، فإن تطيب وأحرم به فعليه الفدية، فإن أكل طعاما فيه طيب، فإن كانت النار مسته، فلا شيء عليه، وإن لم تمسه النار، ففيه وجهان.

                                                                                                                                                                                  وأما غير المؤنث مثل الرياحين، والياسمين، والورد فليس من ذلك، ولا فدية فيه أصلا، والطيب المؤنث طيب النساء كالخلوق، والزعفران، قاله شمر.

                                                                                                                                                                                  وأما شم الريحان ففي (شرح المهذب) الريحان الفارسي، والمرزنجوش، واللينوفر، والنرجس فيها قولان:

                                                                                                                                                                                  أحدهما: يجوز شمها؛ لما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن المحرم يدخل البستان، قال: نعم، ويشم الريحان.

                                                                                                                                                                                  والثاني: لا يجوز; لأنه يراد للرائحة، فهو كالورد، والزعفران.

                                                                                                                                                                                  والأصح تحريم شمها، ووجوب الفدية، وبه قال ابن عمر، وجابر، والثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأبو ثور. إلا أن أبا حنيفة ومالكا يقولان: يحرم ولا فدية.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن المنذر: [ ص: 157 ] واختلف في الفدية عن عطاء، وأحمد.

                                                                                                                                                                                  وممن جوزه وقال هو حلال، ولا فدية فيه: عثمان، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وإسحاق رضي الله تعالى عنهم، قال العبدري: وهو قول أكثر العلماء.

                                                                                                                                                                                  وفي (التوضيح): الحناء عندنا ليس طيبا، خلافا لأبي حنيفة، وعند مالك وأحمد: فيه الفدية، وقالت عائشة: "وكان صلى الله عليه وسلم يكره ريحه" أخرجه ابن أبي عاصم في (كتاب الخضاب) وكان يحب الطيب، فلو كان طيبا لم يكرهه.

                                                                                                                                                                                  (قلت): روى أبو يعلى في (مسنده) عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اختضبوا بالحناء، فإنه طيب الريح، يسكن الدوخة".

                                                                                                                                                                                  وأما الطيب بعد رمي الجمرة فقد رخص فيه ابن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وابن الزبير، وعائشة، وابن جبير، والنخعي، وخارجة بن زيد، وهو قول الكوفيين، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وكرهه سالم، ومالك.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن القاسم: ولا فدية لما جاء في ذلك، ولما كان الطحاوي مع محمد بن الحسن فيما ذهب إليه أجاب عن حديث الباب الذي احتج به أبو حنيفة، وأبو يوسف، وآخرون، فقال: وكان من الحجة له -أي: لمحمد بن الحسن- في ذلك أن ما ذكر في حديث عائشة من تطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الإحرام إنما فيه أنها كانت تطيبه إذا أراد أن يحرم، فقد يجوز أن يكون كانت تفعل ذلك به، ثم يغتسل إذا أراد أن يحرم فيذهب بغسله عنه ما كان على بدنه من طيب، ويبقى فيه ريحه.

                                                                                                                                                                                  وادعى ابن القصار والمهلب أنه كان من خواصه صلى الله عليه وسلم، وزاد المهلب معنى آخر أنه خص به لمباشرته الملائكة بالوحي وغيره، وقد ذكرناه.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية