الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1396 67 - حدثنا معاذ بن فضالة، قال: حدثنا هشام، عن يحيى، عن هلال بن أبي ميمونة، قال: حدثنا عطاء بن يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله، فقال: إني مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها، فقال رجل: يا رسول الله، أويأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ما شأنك؟ تكلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك؟ فرأينا أنه ينزل عليه، قال: فمسح عنه الرحضاء، فقال: أين السائل؟ وكأنه حمده، فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضراء، أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت، وإن هذا المال [ ص: 39 ] خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدا عليه يوم القيامة.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "واليتيم" وذكر وجه تخصيصه بالذكر.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم ستة: الأول معاذ -بضم الميم- بن فضالة -بفتح الفاء وتخفيف الضاد المعجمة- مر في باب من اتخذ ثياب الحيض.

                                                                                                                                                                                  الثاني: هشام الدستوائي، الثالث: يحيى بن أبي كثير، الرابع: هلال بن أبي ميمونة، ويقال: هلال بن أبي هلال وهو هلال بن علي، ويقال: ابن أسامة الفهري، ومن قال هلال بن أبي ميمونة ينسبه إلى جد أبيه، وقد ذكر في أول كتاب العلم، الخامس: عطاء بن يسار ضد اليمين وقد مر في باب كفران العشير، السادس: أبو سعيد الخدري.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده): فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضع.

                                                                                                                                                                                  وفيه العنعنة في موضعين.

                                                                                                                                                                                  وفيه السماع.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن شيخه من أفراده وأنه بصري، وهشام أهوازي، ويحيى طائي يمامي، وهلال مدني وكذا عطاء.

                                                                                                                                                                                  وفيه اثنان مذكوران بلا نسبة.

                                                                                                                                                                                  وفيه من ينسب إلى جد أبيه وهو هلال.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره): أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن محمد بن سنان، وفي الرقاق عن إسماعيل بن عبد الله، وأخرجه مسلم في الزكاة عن أبي الطاهر بن السرح وعن علي بن حجر، وأخرجه النسائي عن زياد بن أيوب.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه): قوله: "ذات يوم" معناه جلس قطعة من الزمان، فيكون "ذات يوم" صفة للقطعة المقدرة ولم تتصرف; لأن إضافتها من قبيل إضافة المسمى إلى الاسم، وليس له تمكن في الظرفية الزمانية; لأنه ليس من أسماء الزمان.

                                                                                                                                                                                  قوله: "إن مما أخاف" كلمة "ما" يجوز أن تكون موصولة، والتقدير: إن من الذي أخاف، ويجوز أن تكون مصدرية، فالتقدير: إن من خوفي عليكم، وقوله: "ما يفتح عليكم" في محل النصب؛ لأنه اسم إن، ومما أخاف مقدما خبره، وكلمة "ما" في "ما يفتح" تحتمل الوجهين أيضا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "من زهرة الدنيا" أي من حسنها وبهجتها، مأخوذ من زهرة الأشجار وهو ما يصغر من أنوارها.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن الأعرابي: هو الأبيض منها.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو حنيفة: الزهر والنور سواء، وفي مجمع الغرائب: هو ما يزهر منها من أنواع المتاع والعين والثياب والزروع وغيرها، تغر الخلق بحسنها مع قلة بقائها، وفي المحكم: زهر الدنيا وزهرتها يعني بتسكين الهاء وفتحها، وفي الجامع: وزهرها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أويأتي الخير بالشر؟" الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر بعد الهمزة.

                                                                                                                                                                                  وقال الطيبي: الاستفهام فيه استرشاد منهم، ومن ثمة حمد صلى الله تعالى عليه وسلم السائل، والباء في "بالشر" صلة "يأتي" بمعنى: هل يستجلب الخير الشر؟ وجوابه صلى الله عليه وسلم: "لا يأتي الخير بالشر" لكن قد يكون سببا له ومؤديا إليه كما يأتي في التمثيل.

                                                                                                                                                                                  وفي التلويح: هذا سؤال مستبعد؛ لما سماه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بركة، وسماه الله تعالى خيرا بقوله: وإنه لحب الخير لشديد فأجيب بأن هذا الخير قد يعرض له ما يجعله شرا إذا أسرف فيه ومنع من حقه، ولذلك قال: "أوخير هو؟" بهمزة الاستفهام وواو العطف الواقعة بعدها المفتوحة على الرواية الصحيحة، منكرا على من توهم أنه لا يحصل منه شر أصلا لا بالذات ولا بالعرض.

                                                                                                                                                                                  وقال التيمي: أتصير النعمة عقوبة؟ أي: إن زهرة الدنيا نعمة من الله على الخلق، أتعود هذه النعمة وبالا عليهم؟

                                                                                                                                                                                  قوله: "فسكت صلى الله تعالى عليه وسلم" يعني انتظارا للوحي، فلام القوم هذا السائل، وقالوا له: ما شأنك تكلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يكلمك؟

                                                                                                                                                                                  قوله: "فرأينا" من الرؤية، وفي رواية الكشميهني: "فأرينا" بضم الهمزة وكسر الراء، ويروى "فرأينا" بضم الراء أي ظننا، وكل ما جاء من هذا اللفظ بمعنى رؤية العين فهو مفتوح الأول، وما كان من الظن والحسبان فهو أري وأريت بضم الهمزة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "إنه ينزل عليه" على صيغة المجهول، يعني "الوحي".

                                                                                                                                                                                  قوله: "فمسح عنه الرحضاء" بضم الراء وفتح الحاء المهملة والضاد المعجمة، هو عرق يغسل الجلد لكثرته، وكثيرا ما يستعمل في عرق الحمى والمرضى.

                                                                                                                                                                                  وقال الأصمعي: الرحضاء العرق، حتى كأنه رحض جسده من العرق أي غسل، ووزنه فعلاء بضم الفاء وفتح العين، وجاءت أمثلة على هذا الوزن منها العدواء الشغل، والعرواء الرعدة، والخيلاء من الاختيال والتكبر، والصعداء من قولهم: هو يتنفس الصعداء من غم أي يصاعد نفسه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وكأنه حمده" أي وكأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حمد السائل، وكان الناس ظنوا أنه صلى الله تعالى [ ص: 40 ] عليه وسلم أنكر مسألته، فلما رأوه يسأل عنه سؤال راض علموا أنه حمده، فقال: "إنه لا يأتي الخير بالشر" أي إن ما قضى الله أن يكون خيرا يكون خيرا، وما قضاه أن يكون شرا يكون شرا، وإن الذي خفت عليكم تضييعكم نعم الله وصرفكم إياها في غير ما أمر الله، ولا يتعلق ذلك بنفس النعمة ولا ينسب إليها، ثم ضرب لذلك مثلا، فقال: "وإن مما ينبت الربيع.." إلى آخره، ينبت بضم الياء من الإنبات.

                                                                                                                                                                                  قوله: "يقتل أو يلم" قال القزاز: هذا حديث جرى فيه البخاري على عادته في الاختصار والحذف; لأن قوله: "فرأينا أنه ينزل عليه" يريد الوحي، وفي قوله: "وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم" حذف ما، أي كلمة "ما" قبل يقتل وحذف "حبطا" والحديث "إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم" فحذف حبطا وحذف ما قال القزاز وروينا بهما، وفي نسخة صاحب التلويح: لفظ "حبطا" موجود، وغالب النسخ ليس فيه. وقال الخطابي: سقط في الكلام من الرواية "ما" وتقديره: ما يقتل.

                                                                                                                                                                                  قلت: لا بد من تقدير كلمة ما; لأن قوله: "ينبت الربيع" فعل وفاعل ولا يصلح أن يكون لفظ "يقتل" مفعولا إلا بتقدير ما.

                                                                                                                                                                                  وقوله: "حبطا" بفتح الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة، وانتصابه على التمييز، وهو داء يصيب الإبل.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن سيده: هو وجع يأخذ البعير في بطنه من كلاء يستوبله، وقد حبط حبطا فهو حبط، وإبل حباطى وحبطة، وحبطت الشاة حبطا انتفخ بطنها عن أكل الدرق، وذلك الداء الحباط.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أو يلم" من الإلمام أي أو يقرب ويدنو من الهلاك.

                                                                                                                                                                                  قوله: "إلا آكلة الخضر" بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين وفي آخره راء، ووقع في رواية العذري "إلا آكلة الخضرة" بالتاء في آخره، وعند الطبري "الخضرة" بضم الخاء وسكون الضاد، وفي رواية الحموي "الخضراء" بزيادة ألف قبل الاستثناء مفرغ.

                                                                                                                                                                                  والأصل: مما ينبت الربيع ما يقتل آكله إلا آكلة الخضر، وإنما صح الاستثناء المفرغ لقصد التعميم فيه، ونظيره: قرأت إلا يوم كذا.

                                                                                                                                                                                  وقال الطيبي: والأظهر أن الاستثناء منقطع؛ لوقوعه في الكلام المثبت وهو غير جائز عند صاحب الكشاف إلا بالتأويل، ولأن ما يقتل حبطا بعض ما ينبت الربيع؛ لدلالة من التبعيضية عليه، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا لكن يجب التأويل في المستثنى، والمعنى: من جملة ما ينبت الربيع شيئا يقتل آكله إلا الخضر منه إذا اقتصد فيه آكله وتحرى دفع ما يؤديه إلى الهلاك.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فإنها" أي فإن آكلة الخضر، قال الخطابي: الخضر ليس من أحرار البقول التي تستكثر منه الماشية فتهلكه أكلا، ولكنه من الجنبة التي ترعى الماشية منها بعد هيج العشب ويبسه، وأكثر ما تقول العرب لما اخضر من الكلأ الذي لم يصفر، والماشية من الإبل ترتع منها شيئا فشيئا فلا تستكثر منه فلا تحبط بطونها عليه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "حتى إذا امتدت خاصرتاها" يعني إذا امتلأت شبعا وعظم جنباها، والخاصرة الجنب "استقبلت الشمس" لأنه الحين الذي تشتهي فيه الشمس، وجاءت وذهبت "فثلطت" بفتح الثاء المثلثة أي ألقت السرقين.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن التين: "ثلطت" ضبطه بعضهم بفتح اللام وبعضهم بكسرها، وفي المحكم: ثلط الثور والبعير والصبي يثلط ثلطا سلح سلحا رقيقا، وفي مجمع الغرائب: خرج رجيعها عفوا من غير مشقة لاسترخاء ذات بطنها، فيبقى نفعها، ويخرج فضولها ولا يتأذى بها. وفي العباب والمغيث: وأكثر ما يقال للبعير والفيل.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ورتعت" أي رعت، وأرتع إبله أي رعاها في الربيع، وأرتع الفرس وتربع أكل الربيع.

                                                                                                                                                                                  وقال الداودي: رتعت افتعل من الرعي.

                                                                                                                                                                                  قلت: ليس كذلك، ولا يقول هذا إلا من لم يمس شيئا من علم التصريف.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وإن هذا المال خضر" بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، وإنما سمي الخضر خضرا لحسنه ولإشراق وجهه، والخضرة عبارة عن الحسن، وهي من أحسن الألوان، ويروى خضرة بتاء التأنيث، والوجه فيه أن يقال: إنما أنث على معنى تأنيث المشبه به، أي: هذا المال شيء كالخضرة.

                                                                                                                                                                                  وقيل: معناه كالبقلة الخضرة، أو يكون على معنى فائدة المال، أي الحياة به والمعيشة خضرة.

                                                                                                                                                                                  وقال الطيبي: يمكن أن يعبر عن المال بالدنيا; لأنه أعظم زينتي الحياة الدنيا، قال تعالى: المال والبنون زينة الحياة الدنيا وقال الخطابي: يريد أن صورة الدنيا حسنة المنظر، مونقة، تعجب الناظر، ولذلك أنث اللفظين يعني: خضرة حلوة.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: وله وجه آخر وهو أن تكون التاء للمبالغة، نحو: رجل راوية وعلامة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ونعم صاحب المسلم" إلى آخره، يقول: إن من أعطي مالا وسلط على هلكته في الحق فأعطى من فضله المسكين وغيره، فهذا المال المرغوب فيه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" شك من يحيى.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وإنه من يأخذه" أي: وإن المال من يأخذه بغير حقه بأن جمعه من الحرام [ ص: 41 ] أو من غير احتياج إليه ولم يخرج منه حقه الواجب فيه فهو كالذي يأكل ولا يشبع، يعني أنه كلما نال منه شيئا ازدادت رغبته، واستقل ما في يده، ونظر إلى ما فوقه، فينافسه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فيكون عليه شهيدا يوم القيامة" يحتمل البقاء على ظاهره وهو أنه يجاء بماله يوم القيامة فينطق الصامت منه ما فعل به، أو يمثل له بمثال حيوان، أو يشهد عليه الموكلون بكتب الكسب والإنفاق.

                                                                                                                                                                                  وقيل: معنى قوله: "ويكون عليه شهيدا" أي حجة عليه يوم القيامة، يشهد على صرفه وإسرافه، وأنه أنفقه فيما لا يرضاه الله تعالى ولم يؤد حقه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه):

                                                                                                                                                                                  فيه مثلان ضربهما النبي صلى الله عليه وسلم، أحدهما للمفرط في جمع الدنيا ومنعها من حقها، والآخر للمقتصد في أخذها. فأما قوله: "وإن مما ينبت الربيع" فهو مثل المفرط الذي يأخذها بغير حق، وذلك أن الربيع ينبت أحرار العشب، فتستكثر منها الماشية حتى تنتفخ بطونها؛ لما قد جاوزت حد الاحتمال، فتنشق أمعاؤها منها فتهلك، كذلك الذي يجمع الدنيا من غير حلها ويمنع ذا الحق حقه يهلك في الآخرة بدخوله النار. وأما قوله: "إلا آكلة الخضر" فهو مثل المقتصد، وذلك أن الخضر ليس من أحرار البقول التي ينبتها الربيع ولكنها من الجنبة التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول، فضربه صلى الله عليه وسلم مثلا لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجمعها ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو ناج من وبالها كما نجت آكلة الخضر.

                                                                                                                                                                                  وقيل: الربيع قد ينبت أحرار العشب والكلأ، فهي كلها خير في نفسها، وإنما يأتي الشر من قبل آكل مستلذ مفرط منهمك فيها، بحيث تنتفخ أضلاعه منه، وتمتلئ خاصرتاه، ولا يقلع عنه فيهلكه سريعا، ومن أكل كذا فيشرفه إلى الهلاك، ومن أكل مسرفا حتى تنتفخ خاصرتاه، ولكنه يتوخى إزالة ذلك، ويتحيل في دفع مضرتها حتى يهضم ما أكل، ومن أكل غير مفرط ولا مسرف يأكل منها ما يسد جوعه ولا يسرف فيه حتى يحتاج إلى دفعه، ومن أكل ما يسد به رمقه ويقوم به طاعته.

                                                                                                                                                                                  الأول: مثال الكافر، ومن ثمة أكد القتل بالحبط، أي يقتل قتلا حبطا، والكافر هو الذي يحبط أعماله.

                                                                                                                                                                                  والثاني: مثال المؤمن الظالم لنفسه المنهمك في المعاصي.

                                                                                                                                                                                  والثالث: مثال المقتصد.

                                                                                                                                                                                  والرابع: مثال السابق الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة. هذا الوجه يفهم من الحديث، وإن لم يصرح به، وفي كلام النووي إشعار بهذا.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز ضرب الأمثال بالأشياء التافهة والكلام الوضيع كالبول ونحوه.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز عرض التلميذ على العالم الأشياء المجملة، وأن للعالم إذا سئل عن شيء أن يؤخر الجواب حتى يتيقن.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن السؤال إذا لم يكن في موضعه ينكر على سائله.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن العالم إذا سئل عن شيء ولم يستحضر جوابه أو أشكل عليه يؤخر الجواب حتى يكشف المسألة ممن فوقه من العلماء، كما فعل صلى الله عليه وسلم في سكوته حتى استطلعها من قبل الوحي.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن كسب المال من غير حله غير مبارك فيه، والله تعالى يرفع عنه البركة كما قال تعالى: يمحق الله الربا وقال الشيخ أبو حامد: مثال المال مثال الحية التي فيها ترياق نافع وسم ناقع، فإن أصابها المعزم الذي يعرف وجه الاحتراز من شرها وطريق استخراج ترياقها النافع كانت نعمة، وإن أصابها السوادي الغبي فهي عليه بلاء مهلك.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن للعالم أن يحذر من يجالسه من فتنة المال، وينبههم على مواضع الخوف، كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: "إنما أخاف عليكم" فوصف لهم ما يخاف عليهم، ثم عرفهم بمداواة تلك الفتنة، وهي إطعام المسكين، ونحوه.

                                                                                                                                                                                  وفيه الحض على الاقتصاد في المال، والحث على الصدقة وترك الإمساك. قال الكرماني: وفيه حجة لمن يرجح الغنى على الفقر.

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا الكلام عكس ما نقل عن المهلب، فإنه قال: احتج قوم بهذا الحديث في تفضيل الفقر على الغنى، وليس كما تأولوه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخش عليهم ما يفتح عليهم من زهرة الدنيا إلا إذا ضيعوا ما أمرهم الله تعالى به في إنفاق حقه.

                                                                                                                                                                                  قلت: جمع المال غير محرم، ولكن الاستكثار منه والخروج عن حد الاقتصاد فيه ضار، كما أن الاستكثار من المآكل مسقم من غير تحريم للأكل، ولكن الاقتصاد فيه هو المحمود.

                                                                                                                                                                                  وفيه جلوس الإمام على المنبر عند الموعظة، وجلوس الناس حوله.

                                                                                                                                                                                  وفيه خوف المنافسة؛ لقوله: "إنما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا".

                                                                                                                                                                                  وفيه استفهامهم بضرب المثل.

                                                                                                                                                                                  وفيه مسح الرحضاء للشدة الحاصلة.

                                                                                                                                                                                  وفيه دعاء السائل؛ لقوله: "أين السائل".

                                                                                                                                                                                  وفيه ظهور البشرى لقوله: "وكأنه حمده" أي لما رأى فيه من البشرى؛ لأنه كان إذا سر برقت أسارير وجهه، والله أعلم.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية