الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1485 [ ص: 193 ] 153 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثني أبو بكر الحنفي، قال: حدثنا أفلح بن حميد، قال: سمعت القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج وليالي الحج وحرم الحج فنزلنا بسرف، قالت: فخرج إلى أصحابه فقال: من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه الهدي فلا. قالت: فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه. قالت: فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجال من أصحابه فكانوا أهل قوة وكان معهم الهدي فلم يقدروا على العمرة، قالت: فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: ما يبكيك يا هنتاه؟ قلت: سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة، قال: وما شأنك؟ قلت: لا أصلي، قال: فلا يضيرك إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب الله عليك ما كتب عليهن، فكوني في حجتك فعسى الله أن يرزقكيها. قالت: فخرجنا في حجته حتى قدمنا منى فطهرت ثم خرجت من منى فأفضت بالبيت، قالت: ثم خرجت معه في النفر الآخر حتى نزل المحصب ونزلنا معه فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة، ثم افرغا، ثم ائتيا هاهنا فإني أنظركما حتى تأتياني. قالت: فخرجنا حتى إذا فرغت وفرغت من الطواف ثم جئته بسحر فقال: هل فرغتم؟ فقلت: نعم، فآذن بالرحيل في أصحابه فارتحل الناس فمر متوجها إلى المدينة.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج وليالي الحج وحرم الحج".

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله، وهم خمسة:

                                                                                                                                                                                  الأول: محمد بن بشار -بفتح الباء الموحدة وتشديد الشين المعجمة- الملقب ببندار، وقد تكرر ذكره.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أبو بكر الحنفي واسمه عبد الكبير بن عبد المجيد.

                                                                                                                                                                                  الثالث: أفلح بن حميد -بضم الحاء-ابن نافع الأنصاري مر في (باب: هل يدخل الجنب يده).

                                                                                                                                                                                  الرابع: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.

                                                                                                                                                                                  الخامس: أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإفراد في موضع.

                                                                                                                                                                                  وفيه: العنعنة في موضع.

                                                                                                                                                                                  وفيه: السماع في موضع.

                                                                                                                                                                                  وفيه: القول في موضعين.

                                                                                                                                                                                  وفيه: أن الاثنين الأولين بصريان والاثنين الآخرين مدنيان.

                                                                                                                                                                                  ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره:

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا عن أبي نعيم.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم في الحج أيضا عن محمد بن عبد الله بن نمير.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه النسائي فيه عن هناد بن السري.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: (وحرم الحج) بضم الحاء المهملة وضم الراء، ويروى بضم الحاء وفتح الراء، فالمعنى على الأول: أزمنة الحج وأمكنته وحالاته، وعلى الثاني: محرمات الحج وممنوعاته؛ لأنه جمع حرمة.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت) كان مقتضى التركيب أن يقال: "أشهر الحج ولياليه وحرمه" بالإضمار في الآخرين.

                                                                                                                                                                                  (قلت) بلى، ولكن لما قصد بذلك التعظيم له والتفخيم ذكر بالظاهر موضع المضمر.

                                                                                                                                                                                  قوله: (بسرف) بفتح السين المهملة وكسر الراء وفي آخره فاء، وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث؛ لأنه اسم بقعة قريبة من مكة، وأول حدودها.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فخرج) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج من قبته التي ضربت له إلى أصحابه.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فليفعل) أي فليفعل العمرة، وهذا يدل على أن الأمر بذلك لمن كانوا مفردين بالحج؛ لأنه إنما أمر بالفسخ لمن أفرد لا لمن قرن ولا لمن أهل بعمرة، فأمرهم بذلك ليتمتعوا بالعمرة إلى الحج، فعلم من ذلك أن الأمر بالفسخ كان بسرف، وإنما أرادت فسخ الحج فمنعت من ذلك.

                                                                                                                                                                                  وقال عياض: والذي تدل عليه النصوص من أحاديث الصحيحين وغيرهما، إنما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد إحرامهم بالحج، ويحتمل أنه كرر الأمر بذلك في الموضعين، وأن العزيمة كانت آخرا حين أمرهم بالفسخ إلى العمرة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فلا) أي فلا يفعل.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فالآخذ بها) مرفوع على أنه مبتدأ، والتارك عطف عليه، وخبره هو قوله: "من أصحابه" ويجوز أن يكون مرفوعا بتقدير [ ص: 194 ] كان التامة، أي فكان الآخذ بها والتارك لها، والضمير في بها ولها يرجع إلى العمرة.

                                                                                                                                                                                  وقال القرطبي: ظاهره التخيير، فلذلك كان منهم الآخذ والتارك، لكن لما ظهر منه صلى الله عليه وسلم العزم حين غضبه قالوا: تحللنا وسمعنا وأطعنا، وكان ترددهم؛ لأنهم ما كانوا يرون العمرة في أشهر الحج جائزة، وأنها من أفجر الفجور، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم جواز ذلك.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وأنا أبكي) جملة حالية.

                                                                                                                                                                                  قوله: (يا هنتاه) يعني يا هذه من غير أن يراد به مدح أو ذم، وأصل هذا مأخوذ من هن على وزن أخ، وهو كناية عن شيء لا تذكره باسمه، وتقول في النداء: يا هن للرجل، وللمرأة يا هنة، ولك أن تدخل فيهما الهاء لبيان الحركة، فتقول: يا هنه، ويا هنته، وإذا أشبعت الحركة تتولد الألف فتقول حينئذ: يا هناه، ويا هنتاه، ولا يستعملان إلا في النداء. وقال السفاقسي: ضبط في رواية أبي ذر بإسكان النون، وفي رواية أبي الحسن بفتحها. وقال ابن الأثير: تضم الهاء الآخرة وتسكن، وتقول في التثنية للمذكر: هنان، وللجمع: هنون، وللمؤنث: هنتان وهنات.

                                                                                                                                                                                  وقيل: معنى يا هنتاه: يا بلهاء، كأنها نسبت إلى قلة المعرفة بمكائد الناس وشرورهم. وقال التيمي: الألف والهاء في آخره كالألف والهاء في الندبة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (قلت: لا أصلي) كناية عن أنها حاضت. وفيه: رعاية الأدب وحسن المعاشرة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فلا يضيرك) من الضير بالضاد المعجمة وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره راء وهو الضرر، وهذه رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (لا يضرك) بتشديد الراء من الضرر.

                                                                                                                                                                                  قوله: (أن يرزقكيها) أي العمرة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (في النفر الآخر) وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، والنفر الأول هو الثاني عشر منه.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: النفر بسكون الفاء وفتحها.

                                                                                                                                                                                  قوله: (حتى نزل المحصب) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الصاد المهملة المفتوحة وفي آخره باء موحدة، وهو مكان متسع بين مكة ومنى، وسمي به لاجتماع الحصباء فيه بحمل السيل، وأنه موضع منهبط، وهو الأبطح والبطحاء، وحدوه بأنه ما بين الجبلين إلى المقابر، وليست المقبرة منه، وفيه لغة أخرى "الحصاب" بكسر الحاء.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عبيد: هو من حدود خيف بني كنانة، وحده من الحجون ذاهبا إلى منى.

                                                                                                                                                                                  وقال في موضع آخر: وهو الخيف، قال ياقوت: وهو غير المحصب موضع رمي الجمار بمنى.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فلتهل) بضم التاء المثناة من فوق، من الإهلال وهو الإحرام.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ثم افرغا) أمر لعبد الرحمن وعائشة كليهما، أي افرغا من العمرة، وهذا يدل على أن عبد الرحمن أيضا اعتمر مع عائشة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (هاهنا) أي المحصب.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فإني أنظركما) بمعنى أنتظركما، وفي رواية الكشميهني: أنتظركما، من الانتظار.

                                                                                                                                                                                  قوله: (حتى تأتياني) وفي غالب النسخ: تأتيان، بنون الوقاية وحذف الياء التي للمتكلم، والاكتفاء بالكسرة عنها.

                                                                                                                                                                                  قوله: (حتى إذا فرغت وفرغت) بالتكرار، وصلة الأول محذوفة، أي فرغت من العمرة وفرغت من الطواف، وحذف الأول للعلم به.

                                                                                                                                                                                  ويروى: (حتى إذا فرغت وفرغ) بلفظ الغائب، أي: حتى إذا فرغت أنا من العمرة وطواف الوداع وفرغ عبد الرحمن أيضا.

                                                                                                                                                                                  قوله: (بسحر) بفتح الراء بدون التنوين وبجرها مع التنوين، وهو عبارة عن قبيل الصبح الصادق، فإذا أردت به سحر ليلتك بعينه لم تصرفه؛ لأنه معدول عن السحر وهو علم له، وإن أردت نكرة صفة فهو منصرف، والأولى هنا هو الأول.

                                                                                                                                                                                  قوله: (هل فرغتم) خطاب لعبد الرحمن ولعائشة ومن معهما في ذلك الإعمار وإلا فالقياس أن يقال: هل فرغتما، أو نقول: إن أقل الجمع اثنان.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فآذن بالرحيل) أي فأعلم الناس بالارتحال.

                                                                                                                                                                                  قوله: (متوجها) أي حال كونه صلى الله عليه وسلم متوجها نحو المدينة.

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه:

                                                                                                                                                                                  فيه أن من كان بمكة وأراد العمرة فميقاته لها الحل، وإنما وجب الخروج إليه ليجمع في نسكه بين الحل والحرم كما يجمع الحاج بينهما، فإن عرفات من الحل.

                                                                                                                                                                                  وفيه: النزول بالمحصب، فظاهره أن النزول فيه سنة، كما قال أبو حنيفة، وهو قول إبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، وطاوس.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن المنذر: كان ابن عمر يراه سنة. وقال نافع: "حصب النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده" أخرجه مسلم، وزعم ابن حبيب أن مالكا كان يأمر بالتحصيب ويستحبه، وبه قال الشافعي.

                                                                                                                                                                                  وقال عياض: هو مستحب عند جميع العلماء، وهو عند الحجازيين أوكد منه عند الكوفيين، وأجمعوا أنه ليس بواجب، وأخرج مسلم عن نافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما كانوا ينزلون بالأبطح. وأخرجت الأئمة الستة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمحصب؛ ليكون أسمح لخروجه وليس بسنة، فمن شاء نزله ومن شاء لم ينزله.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية