الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل بأن يسلفه ألف دينار، فدفعها إليه فخرج في البحر فلم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار فرمى بها في البحر، فخرج الرجل الذي كان أسلفه، فإذا بالخشبة فأخذها لأهله حطبا. فذكر الحديث فلما نشرها وجد المال.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  الكلام في هذا الحديث على أنواع:

                                                                                                                                                                                  الأول: في وجه إيراده هذا الحديث في هذا الباب، فقال الإسماعيلي: ليس في هذا الحديث شيء يناسب الترجمة، رجل اقترض قرضا فارتجع قرضه، وكذا قال الداودي: حديث الخشبة ليس من هذا الباب في شيء، وأجاب عن ذلك من ساعده، ووجه كلامه، منهم عبد الملك، فقال: إنما أدخل البخاري هذا الحديث في هذا الباب؛ لأنه يريد أن كل ما ألقاه البحر جاز التقاطه ولا خمس فيه إذا لم يعلم أنه من مال المسلمين، وأما إذا علم أنه منه فلا يجوز أخذه؛ لأن الرجل إنما أخذ خشبة على الإباحة ليملكها، فوجد فيها المال، ولو وقع هذا اليوم كان كاللقطة؛ لأنه معلوم أن الله تعالى لا يخلق الدنانير المضروبة في الخشبة.

                                                                                                                                                                                  (قلت): ينبغي أن يقيد "عادة" لأن قدرة الله تعالى صالحة لكل شيء عقلا.

                                                                                                                                                                                  ومنهم ابن المنير فقال: موضع الاستشهاد إنما هو أخذ الخشبة على أنها حطب، فدل على إباحة مثل ذلك مما يلفظه البحر، إما مما ينشأ فيه كالعنبر، أو مما سبق فيه ملك وعطب، وانقطع ملك صاحبه منه، على اختلاف بين العلماء في تمليك هذا مطلقا أو مفصلا، وإذا جاز تمليك الخشبة وقد تقدم عليها ملك متملك فنحو العنبر الذي لم يتقدم عليه ملك أولى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): الترجمة "ما يستخرج من البحر" والحديث يدل على ما يستخرج من البحر، فالمطابقة في مجرد الاستخراج من البحر مع قطع النظر عن غيره، وأدنى الملابسة في التطابق كاف.

                                                                                                                                                                                  النوع الثاني: أنه ذكر هذا الحديث هنا معلقا مختصرا، ووقع في بعض نسخه عقيبه: حدثني بذلك عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث، ذكره الحافظ المزي، قال: وهو ثابت في عدة أصول من كتاب البيوع من الجامع من رواية أبي الوقت، عن الداودي، عن أبي حمويه، عن الفربري، عنه.

                                                                                                                                                                                  وقال الطرقي: أخرجه محمد في خمسة مواضع من الكتاب فقال: قال الليث.

                                                                                                                                                                                  (قلت): أخرجه هنا - أعني في الزكاة - وفي الكفالة، وفي الاستقراض، وفي اللقطة، وفي الشروط، وفي الاستئذان.

                                                                                                                                                                                  وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، وقال: في باب التجارة في البحر في البيوع.

                                                                                                                                                                                  وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل خرج في البحر فقضى حاجته" وساق الحديث، حدثني عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث بهذا.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه النسائي في اللقطة عن علي بن محمد بن علي، عن داود بن منصور، عن الليث نحوه.

                                                                                                                                                                                  أما الذي أخرجه في الكفالة فهو في باب الكفالة في القرض والديون، ولفظه: قال أبو عبد الله.

                                                                                                                                                                                  وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز "عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه: "ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال: ايتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا، قال: فأتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا [ ص: 98 ] يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها فأحل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى به إلى البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانا ألف دينار، فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضي بك، وسألني شهيدا فقلت: كفى بالله شهيدا، فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني استودعتكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار فقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي بشيء، قال: أخبرتك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدا".

                                                                                                                                                                                  وأما الذي في الاستقراض فأخرجه مختصرا في باب إذا أقرضه إلى أجل مسمى فقال: وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه فدفعها إليه إلى أجل مسمى " فذكر الحديث.

                                                                                                                                                                                  وأما الذي في اللقطة: فأخرجه في "باب: إذا وجد خشبة في البحر أو سوطا أو نحوه".

                                                                                                                                                                                  وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "ذكر رجلا من بني إسرائيل" وساق الحديث. فخرج ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا هو بالخشبة فأخذها لأهله حطبا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة.

                                                                                                                                                                                  وأما الذي في الشروط، فأخرجه في باب الشروط في الفرض مختصرا.

                                                                                                                                                                                  وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلا سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فدفعها إليه إلى أجل مسمى.

                                                                                                                                                                                  وأما الذي في الاستئذان فأخرجه في "باب: بمن يبدأ في الكتاب".

                                                                                                                                                                                  وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "ذكر رجلا من بني إسرائيل أخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه".

                                                                                                                                                                                  وقال عمرو بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نجر خشبة فجعل المال في جوفها، وكتب إليه صحيفة من فلان إلى فلان".

                                                                                                                                                                                  النوع الثالث في معاني الحديث: فقوله "أن يسلفه" بضم الياء، من أسلف إسلافا، يقال: سلفت تسليفا وأسلفت إسلافا، والاسم السلف، وهو في المعاملات على وجهين:

                                                                                                                                                                                  أحدهما: القرض الذي لا منفعة فيه للمقرض غير الأجر والشكر، وعلى المقترض رده، والعرب تسمي القرض سلفا.

                                                                                                                                                                                  والثاني: هو أن يعطي مالا في سلعة إلى أجل معلوم بزيادة في السعر الموجود عند السلف، وذلك منفعة للمسلف، ويقال له: سلم، والمراد هاهنا هو المعنى الأول.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فلم يجد مركبا" أي: سفينة يركب عليها ويجيء إلى صاحبه، أو يبعث فيها شيئا إليه لقضاء دينه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فأخذ خشبة" والخشبة واحدة الخشب.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فنقرها" أي: قورها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ورمى بها" أي: الخشبة المنقورة قاصدا وصولها إلى صاحب المال.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فإذا بالخشبة" أي: فإذا هو مفاجأ بالخشبة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "حطبا" نصب على أن أخذ من أفعال المقاربة، فيعمل عمل كان، ويجوز أن يكون منصوبا بمقدر تقديره: فأخذها يجعلها حطبا، يعني: يستعملها استعمال الحطب في الوقيد.

                                                                                                                                                                                  قوله: "بالشهداء" جمع شهيد بمعنى شاهد.

                                                                                                                                                                                  قوله: "يقدم" بفتح الدال من قدم يقدم من باب فعل يفعل، بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فأحل فيها" من الإحلال وهو الإنزال، والمراد وضع في الخشبة المنقورة ألف دينار.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وصحيفة" بالنصب، عطف على "ألف دينار" والمراد منها المكتوب.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ثم زجج موضعها" أي: أصلح موضع النقرة وسواه، قيل: لعله من تزجيج الحواجب وهو التقاط زوائد الشعر الخارج عن الخدين، وإن أخذ من الزج وهو سنان الرمح فيكون النقر قد وقع في طرف من الخشبة فسد عليه؛ رجاء أن يمسكه ويحفظ ما في بطنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "تسلفت" من باب التفعل، معناه اقترضت.

                                                                                                                                                                                  قوله: "جهدت" من باب فعل يفعل بالفتح فيهما، أي: تحملت المشقة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ولجت" من الولوج وهو الدخول.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فلما نشرها" أي: قطعها بالمنشار.

                                                                                                                                                                                  قوله: "بالألف دينار" هو جائز على رأي الكوفيين.

                                                                                                                                                                                  قوله: "راشدا" نصب على الحال من فاعل "انصرف".

                                                                                                                                                                                  [ ص: 99 ] (ذكر ما يستفاد منه): قال الخطابي: لفظ "أجل" فيه دليل على جواز دخول الآجال في القرض.

                                                                                                                                                                                  وفيه في قوله: "أخذها لأهله حطبا" دليل على أن ما يوجد في البحر من متاع البحر وغيره أنه لا شيء فيه وهو لمن وجده حتى يستحق ما ليس من متاع البحر من الأموال كالدنانير والثياب وشبه ذلك، فإذا استحق رد إلى مستحقه، وما ليس له طالب ولم يكن له كثير قيمة وحكم بغلبة الظن بانقطاعه كان لمن وجده ينتفع به، ولا يلزمه تعريفه، إلا أن يوجد فيه دليل يستدل به على مالكه كاسم رجل معلوم أو علامة فيجتهد ملتقطها في أمر التعريف له، قاله المهلب.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن من توكل على الله فإنه ينصره، فالذي نقر الخشبة وتوكل حفظ الله تعالى ماله، والذي أسلفه وقنع بالله كفيلا أوصل الله تعالى ماله إليه.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز ركوب البحر بأموال الناس والتجارة.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن الله تعالى متكفل بعون من أراد أداء الأمانة، وأن الله يجازي أهل الإرفاق بالمال بحفظه عليهم مع أجر الآخرة كما حفظه على المسلف.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية