الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد القيسي ، حدثنا أحمد بن مسروق ، حدثني ابن أبي سعيد ، عن شيخ له، قال: رأيت ابن المبارك يعض يد خادم له، فقلت له: تعض يد خادمك؟! قال: كم آمره أن لا يعد الدراهم على السؤال، أقول له: احث لهم حثوا.

[ ص: 255 ] حدثنا عمرو بن محمد ، حدثنا الغلابي ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه، قال: قال إبراهيم بن أبي البلاد: حدثني أخي، قال: رأيت الحجاج بمنى في عمله على العراق، وقام إليه رجال من أهل الحجاز يسألونه، فقال: توهمتم بنا أنا بغير بلادنا، وما لكم مترك، من ها هنا من أهل العراق؟ فقام إليه تجار أهل العراق، فقال: هل من سلف؟ فقالوا: نعم، فحملوا إليه ألف ألف درهم، فقسمها، فلما قدم العراق ردها، وأكثر ظني أنها ومثلها معها.

قال أبو حاتم - رضي الله عنه - : الواجب على العاقل أن يبدأ بالصنائع والإحسان، الأفرض فالأفرض، يبدأ بأهل بيته، ثم بإخوانه، وجيرانه، ثم الأقرب فالأقرب، ويتحرى المعروف والإحسان في أهل الدين والعلم منهم، ويجتنب ضد ما قلنا؛ لأن مثل من لم يفعل ما أومأنا إليه كما أنشدني الحسين بن أحمد البغدادي:


تصول على الأدنى، وتجتنب العدا وما هكذا تبنى المكارم يا يحيى     فكنت كفحل السوء ينزو بأمه
ويترك باقي الخيل سائمة ترعى



وأنشدني البسامي:


وكنت كمهريق الذي في سقائه     لرقراق ماء فوق رابية صلد
كمرضعة أولاد أخرى، وضيعت     بني بطنها، هذا الضلال من القصد



قال أبو حاتم - رضي الله عنه - : العاقل يبتدئ بالصنائع قبل أن يسأل؛ لأن الابتداء بالصنيعة أحسن من المكافأة عليها، والإمساك عن التعرض خير من البذل، والصنائع إنما تحسن بإتمامها، والتحافظ عليها بعدها؛ لأن بصلاح الخواتم تزكو الأوائل، والعطية بعد المنع أجمل من المنع بعد العطية، والناس في الصنائع على ضربين: شاكر، وكافر، ولقد أنشدني بعض إخواننا:


وما الناس في حسن الصنيعة عندهم     وفي كفرهم إلا كبعض المزارع [ ص: 256 ]
فمزرعة طابت وأضعف ريعها     ومزرعة أكدت على كل زارع



وأنشدني محمد بن عبد الله البغدادي:


ومن يضع المعروف في غير أهله     يكن ضائعا في غير حمد ولا أجر
وحسب امرئ من كفر نعمى جحودها     إذا وقعت عند امرئ غير ذي شكر



وأنشدني محمد بن إسحاق الواسطي:


لعمرك ما المعروف في غير أهله     وفي أهله إلا كبعض الودائع
فمستودع ضاع الذي كان عنده     ومستودع ما عنده غير ضائع



قال أبو حاتم - رضي الله عنه - : الهمج من الناس إذا أحسن إليه يرى ذلك استحقاقا منه له، ثم يرى الفضل لنفسه على المحسن إليه، فلا يحمد عند الخير، ولا يشكر عند البر، ويتعجب ممن يشكر، ويذم من يحمد، وإذا امتحن العاقل بمثل من هذا نعته استعمل معه ما أنشدني الكريزي:


إن ذا اللؤم إذا أكرمته     حسب الإكرام حقا لزمك
فأهنه بهوان، إنه     إن تهنه بهوان أكرمك



وأنشدني الأبرش:


إذا أوليت معروفا لئيما     يعدك قد قتلت له قتيلا
فكن من ذاك معتذرا إليه     وقل: إني أتيتك مستقيلا
فإن تغفر فمجترمي عظيم     وإن عاقبت لم تظلم فتيلا
ولست بعائد أبدا لهذا     وقد حملتني حملا ثقيلا



قال أبو حاتم - رضي الله عنه - : أهنأ الصنائع، وأحسنها في الحقائق، وأوقعها بالقلوب، وأكثرها استدامة للنعم، واستدفاعا للنقم: ما كانت خالية عن المنن في البداءة والنهاية، متعرية عن الامتنان، وهو الغاية في الصنيعة، والنهاية في الإحسان.

[ ص: 257 ] ولقد أنشدني محمد بن عبد الله البغدادي:


أحسن من كل حسن     في كل وقت وزمن
صنيعة مربوبة     خالية من المنن



التالي السابق


الخدمات العلمية