الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
أنبأنا عمرو بن سعيد بن سنان الطائي ، حدثنا حامد بن يحيى البلخي قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول " رأيت الثوري في المنام، فقلت له: أوصني، فقال: أقل معرفة الناس، أقل معرفة الناس، أقل معرفة الناس ".

[ ص: 82 ] أنبأنا القطان بالرقة حدثنا المروروذي قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول " رأيت ابن السماك يكتب إلى أخ له: إن استطعت أن لا تكون لغير الله عبدا ما وجدت من العبودية بدا، فافعل ".

قال أبو حاتم رضي الله عنه: العاقل لا يستعبد نفسه لأمثاله بالقيام في رعاية حقوقهم، والتصبر على ورود الأذى منهم، ما وجد إلى ترك الدخول فيه سبيلا، لأنه إذا حسم عن نفسه ترك الاختلاط بالعالم، والمخالطة بهم تمكن من صفاء القلب، وعدم تكدر الأوقات في الطاعات.

ولقد استعمل العزلة جماعة من المتقدمين مع العام والخاص معا.

كما أخبرنا محمد بن إبراهيم الخالدي ، حدثنا داود بن أحمد بن سليمان الدمياطي ، حدثنا عبد الرحمن بن عفان قال: سمعت ابن المبارك يقول " عاد فضيل ، داود الطائي، فأغلق داود الباب، وجلس فضيل خارج الباب يبكي، وداود داخل البيت يبكي ".

أنبأنا الحسين بن محمد السنجي ، حدثنا علي بن المنذر ، حدثنا الحسن بن مالك قال: سمعت بكر محمد العابد يقول: قال لي داود الطائي " يا بكر، استوحش من الناس كما تستوحش من السبع ".

أنبأنا محمد بن أحمد بن الفرج البغدادي بالأبلة حدثنا إبراهيم بن حماد بن زياد ، حدثنا عبد العزيز بن الخطاب قال " رئي إلى جنب مالك بن دينار كلب عظيم ضخم أسود رابض، فقيل له: يا أبا يحيى، ألا ترى هذا الكلب إلى جنبك؟ قال: هذا خير من جليس السوء ".

[ ص: 83 ] قال أبو حاتم رضي الله عنه: هذا الذي ذهب إليه داود الطائي وضرباؤه من القراء من لزوم الاعتزال من الخاص، كما يلزمهم ذلك من العام أرادوا بذلك عند رياضة الأنفس على التصبر على الوحدة، وإيثار ضد الخلطة على المعاشرة; فإن المرء متى لم يأخذ نفسه بترك ما أبيح له فأنا خائف عليه الوقوع فيما حظر عليه.

وأما السبب الذي يوجب الاعتزال عن العالم كافة: فهو ما عرفتهم به من وجود دفن الخير، ونشر الشر، يدفنون الحسنة، ويظهرون السيئة. فإن كان المرء عالما يدعوه، وإن كان جاهلا عيروه، وإن كان فوقهم حسدوه، وإن كان دونهم حقروه وإن نطق قالوا: مهذار، وإن سكت قالوا: عيي، وإن قدر قالوا: مقتر، وإن سمح قالوا: مبذر، فالنادم في العواقب، المحطوط عن المراتب، من اغتر بقوم هذا نعتهم، وغره ناس هذه صفتهم.

ولقد أنبأنا محمد بن المهاجر المعدل أخبرني أحمد بن محمد بن بكر الأبناوي ، عن داود بن رشيد، قال: حدثني إبراهيم بن شماس قال: قال لي الأكاف حفص بن حميد صاحب ابن المبارك بمرو " يا إبراهيم، صحبت الناس خمسين سنة، فلم أجد أحدا ستر لي عورة، ولا وصلني إذا قطعته، ولا أمنته إذا غضب، فالاشتغال بهؤلاء حمق كثير ".

[ ص: 84 ] وأنشدني محمد بن المهاجر المعدل لعلي بن حجر السعدي :


زمانك ذا زمان دخول بيت وحفظ للسان، وخفض صوت     فقد مرجت عهود الناس إلا
أقلهم، فبادر قبل فوت     فما يبقى على الأيام شيء
وما خلق امرؤ إلا لموت



التالي السابق


الخدمات العلمية