[ ص: 319 ] باب
nindex.php?page=treesubj&link=7353المرض الذي تجوز فيه العطية ولا تجوز والمخوف غير المرض
مسألة : قال
الشافعي - رحمه الله تعالى - : " كل مرض كان الأغلب فيه أن الموت مخوف عليه فعطيته إن مات في حكم الوصايا وإلا فهو كالصحيح " .
قال
الماوردي : اعلم أن ما يخرجه الإنسان من ماله ضربان :
أحدهما : وصاياه بعد موته . والثاني : عطاياه المنجزة في حياته .
فأما الوصايا فهي من الثلث ، سواء أوصى بها في صحة أو مرض ، فإن اتسع الثلث لجميعها أمضيت ولم يكن للوارث فيها اعتراض ، وإن ضاق الثلث عنها ، رد الفاضل على الثلث إن لم يجزه الورثة ويحاص أهل الوصايا الورثة بالثلث ، وسواء من تقدمت الوصية له أو تأخرت إلا أن يكون فيه عتق ، فيكون في تقديمه على الوصايا قولان .
وأما العطايا المنجزة في الحياة : فكالهبة ، والصدقة ، والمحاباة ، والعتق ، والوقف ، فضربان :
أحدهما : ما كان في الصحة . والثاني : ما كان في المرض .
فأما عطايا الصحة ، فمن رأس المال ، سواء قرب عهدها بالموت أو بعد .
وأما عطايا المرض فالمرض ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
قسم يكون غير مخوف ، كوجع الضرس ورمد العين ونفور الطحال وحمى يوم ، فالعطايا فيه من رأس المال ؛ لأن الإنسان مطبوع على أحوال متغايرة ولا يبقى معها على حالة واحدة ولا يخلو في تغييره واستحالته ، فإن أعطى في هذه الحالة كانت عطيته من رأس ماله ، مثاله كالصحيح وإن مات عقيب عطيته ؛ لأن حدوث الموت بغيره فهذا هو قسم .
والقسم الثاني : حال المعاينة وضجة النفس وبلوغ الروح التراقي ، فلا يجري عليه فيها حكم قلم ولا يكون لقوله حكم ؛ لأنه في حكم الموتى ، وإن كان يتحرك حركة المذبوح ، وكذلك من شق بطنه وأخرجت حشوته لا يحكم بقوله ووصيته في هذه الحالة ، وإن كان يتحرك أو يتكلم ؛ لأن الباقي منه كحركة المذبوح بعد الذبح .
والقسم الثالث : المرض المخوف الذي الحياة فيه باقية والإياس من صاحبه واقع كالطواعين والجراح النافذة ، فعطاياه كلها من ثلثه ، سواء كان هبة ، أو محاباة ، أو عتقا .
وقال
داود بن علي : العتق كله من الثلث ، للخبر فيه وما سواه من رأس المال .
[ ص: 320 ] وقال
طاوس : العتق وغيره من رأس المال استدلالا بعموم قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=77وافعلوا الخير [ الحج : 77 ] ، ولأنه لما كان ما أنفقه من ماله في ملاذه وشهواته من رأس ماله ، كان ما يتقرب به من عتقه وهباته ومحاباته أولى أن تكون من رأس ماله .
والدليل على فساد هذا القول قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=143ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون [ آل عمران : 143 ] ، يعني به خوف القتل وأسباب التلف وسماه باسمه لقربه منه واتصال حكمه بحكمه وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=180كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين [ البقرة : 180 ] .
يعني بحضور الموت ظهور دلائله ووجود أسبابه .
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
إن الله تعالى أعطاكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم .
فأما استدلاله بنفقات ملذاته وشهواته ، فالجواب عنه أن ما اختص به المريض من مصالحه ، هو أحق به من ورثته وما عاد إلى غيره من هبته ومحاباته فورثته أحق به ؛ فلذلك أمضيت نفقاته من رأس ماله لتعلقها بمصالحه في حال حياته وجعلت هباته من ثلثه لتعلقها بمصلحة غير ، ثم بنفسه بعد مماته ، فلم يكن له إلا ما جعلت له الشريعة ، والله أعلم بالصواب .
[ ص: 319 ] بَابُ
nindex.php?page=treesubj&link=7353الْمَرَضِ الَّذِي تَجُوزُ فِيهِ الْعَطِيَّةُ وَلَا تَجُوزُ وَالْمَخُوفُ غَيْرُ الْمَرَضِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ
الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " كُلُّ مَرَضٍ كَانَ الْأَغْلَبُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْتَ مَخُوفٌ عَلَيْهِ فَعَطِيَّتُهُ إِنْ مَاتَ فِي حُكْمِ الْوَصَايَا وَإِلَّا فَهُوَ كَالصَّحِيحِ " .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ ضَرْبَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَصَايَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَالثَّانِي : عَطَايَاهُ الْمُنْجَزَةُ فِي حَيَاتِهِ .
فَأَمَّا الْوَصَايَا فَهِيَ مِنَ الثُّلُثِ ، سَوَاءٌ أَوَصَى بِهَا فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ ، فَإِنِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِجَمِيعِهَا أُمْضِيَتْ وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَارِثِ فِيهَا اعْتِرَاضٌ ، وَإِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا ، رُدَّ الْفَاضِلُ عَلَى الثُّلُثِ إِنْ لَمْ يُجِزْهُ الْوَرَثَةُ وَيُحَاصُّ أَهْلُ الْوَصَايَا الْوَرَثَةَ بِالثُّلُثِ ، وَسَوَاءٌ مَنْ تَقَدَّمَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ أَوْ تَأَخَّرَتْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِتْقٌ ، فَيَكُونُ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْوَصَايَا قَوْلَانِ .
وَأَمَّا الْعَطَايَا الْمُنْجَزَةُ فِي الْحَيَاةِ : فَكَالْهِبَةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالْمُحَابَاةِ ، وَالْعِتْقِ ، وَالْوَقْفِ ، فَضَرْبَانِ :
أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ فِي الصِّحَّةِ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ فِي الْمَرَضِ .
فَأَمَّا عَطَايَا الصِّحَّةِ ، فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، سَوَاءٌ قَرُبَ عَهْدُهَا بِالْمَوْتِ أَوْ بَعُدَ .
وَأَمَّا عَطَايَا الْمَرَضِ فَالْمَرَضُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
قِسْمٌ يَكُونُ غَيْرَ مَخُوفٍ ، كَوَجَعِ الضِّرْسِ وَرَمَدِ الْعَيْنِ وَنُفُورِ الطِّحَالِ وَحُمَّى يَوْمٍ ، فَالْعَطَايَا فِيهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَطْبُوعٌ عَلَى أَحْوَالٍ مُتَغَايِرَةٍ وَلَا يَبْقَى مَعَهَا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَخْلُو فِي تَغْيِيرِهِ وَاسْتِحَالَتِهِ ، فَإِنْ أَعْطَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَتْ عَطِيَّتُهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، مِثَالُهُ كَالصَّحِيحِ وَإِنْ مَاتَ عُقَيْبَ عَطِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْمَوْتِ بِغَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ قِسْمٌ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : حَالُ الْمُعَايَنَةِ وَضَجَّةُ النَّفْسِ وَبُلُوغُ الرُّوحِ التَّرَاقِيَ ، فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا حُكْمُ قَلَمٍ وَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَوْتَى ، وَإِنْ كَانَ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةَ الْمَذْبُوحِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ شُقَّ بَطُنُهُ وَأُخْرِجَتْ حَشْوَتُهُ لَا يُحْكَمُ بِقَوْلِهِ وَوَصِيَّتِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَحَرَّكُ أَوْ يَتَكَلَّمُ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ كَحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ بَعْدَ الذَّبْحِ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : الْمَرَضُ الْمَخُوفُ الَّذِي الْحَيَاةُ فِيهِ بَاقِيَةٌ وَالْإِيَاسُ مِنْ صَاحِبِهِ وَاقِعٌ كَالطَّوَاعِينِ وَالْجِرَاحِ النَّافِذَةِ ، فَعَطَايَاهُ كُلُّهَا مِنْ ثُلُثِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ هِبَةً ، أَوْ مُحَابَاةً ، أَوْ عِتْقًا .
وَقَالَ
دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : الْعِتْقُ كُلُّهُ مِنَ الثُّلُثِ ، لِلْخَبَرِ فِيهِ وَمَا سِوَاهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ .
[ ص: 320 ] وَقَالَ
طَاوُسٌ : الْعِتْقُ وَغَيْرُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=77وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [ الْحَجِّ : 77 ] ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا أَنْفَقَهُ مِنْ مَالِهِ فِي مَلَاذِّهِ وَشَهَوَاتِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، كَانَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ مِنْ عِتْقِهِ وَهِبَاتِهِ وَمُحَابَاتِهِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=143وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [ آلِ عِمْرَانَ : 143 ] ، يَعْنِي بِهِ خَوْفَ الْقَتْلِ وَأَسْبَابَ التَّلَفِ وَسَمَّاهُ بِاسْمِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ وَاتِّصَالِ حُكْمِهِ بِحُكْمِهِ وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=180كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [ الْبَقَرَةِ : 180 ] .
يَعْنِي بِحُضُورِ الْمَوْتِ ظُهُورَ دَلَائِلِهِ وَوُجُودَ أَسْبَابِهِ .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ .
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِنَفَقَاتِ مَلَذَّاتِهِ وَشَهَوَاتِهِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ الْمَرِيضُ مِنْ مَصَالِحِهِ ، هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ وَمَا عَادَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ هِبْتِهِ وَمُحَابَاتِهِ فَوَرَثَتُهُ أَحَقُّ بِهِ ؛ فَلِذَلِكَ أُمْضِيَتْ نَفَقَاتُهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ لِتَعَلُّقِهَا بِمَصَالِحِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَجُعِلَتْ هِبَاتُهُ مِنْ ثُلُثِهِ لِتَعَلُّقِهَا بِمَصْلَحَةِ غَيْرٍ ، ثُمَّ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا مَا جُعِلَتْ لَهُ الشَّرِيعَةُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .