الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 469 - 472 ] فصل ) إنما يستلحق الأب [ ص: 473 - 474 ] مجهول النسب ، إن لم يكذبه العقل لصغره ، أو العادة [ ص: 475 ] إن لم يكن رقا لمكذبه به أو مولى ، لكنه يلحق به

[ ص: 472 ]

التالي السابق


[ ص: 472 ] ( فصل ) في بيان أحكام الاستلحاق وهو الإقرار بالنسب ، وأفرده بترجمة لاختصاصه بأحكام ابن عرفة الاستلحاق ادعاء المدعي أنه أب لغيره ، فيخرج هذا أبي أو أبو فلان . الرصاع لا يقال الاستلحاق طلب اللحوق والادعاء إخبار ، فكيف يفسره به ، لأنه يقال هذا أصله في اللغة ، وغلب في عرف الفقهاء على ما ذكره ابن عرفة " ق " . روى ابن القاسم عن الإمام مالك رضي الله تعالى عنهما الاستحسان تسعة أعشار العلم ، وهذا الباب أكثره محمول عليه . البناني ابن رشد الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أغلب من القياس هو أن يكون طرد القياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه ، فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم ، فيختص به ذلك الموضع والحكم بغلبة الظن أصل في الأحكام ، ومن الاستحسان مراعاة الخلاف ، وهو أصل في المذهب منه قولهم في النكاح المختلف فيه فسخه طلاق ، وفيه الإرث ، وهذا المعنى أكثر من أن ينحصر .

وأما العدول عن مقتضى القياس في موضع من المواضع استحسانا لمعنى لا تأثير له في الحكم ، فهو مما لا يجوز بالإجماع لأنه من الحكم بالهوى المحرم بنص التنزيل ، قال الله عز وجل { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } . ( إنما يستلحق الأب ) ابن القاسم وغيره إذا أقر رجل بابن جاز إقراره ولحق به صغيرا كان أو كبيرا أنكر الابن أو أقر ، وفيها من ولد عنده صبي فأعتقه ثم استلحقه بعد طول الزمان لحق به وإن أكذبه الولد لا الأم اتفاقا ولا الجد على المشهور ، وحكى [ ص: 473 ] الباجي وغيره عن أشهب أن الجد يستلحق ، وتأوله ابن رشد بحمله على قوله الجد أبو هذا ابني ، ففي نوازل أصبغ قلت فإن استلحق ولد ولد فقال هذا ابن ابني وابنه ميت هل يلحق به إذا كان وارث معروف كما يلحقه به ابنه لصلبه ، قال لا ، لأن ولد الولد في هذا بمنزلة الأخ والعصبة والمولى لا يجوز استلحاقه إذا كان له وارث معروف ، وذلك أن ابنه لو كان حيا فأنكر أن يكون ابنه لم يكن للجد استلحاقه . ابن رشد هذا كما قال إنه لا يجوز للرجل أن يلحق ولده ولدا هو له منكر . وقيل إذا استلحق الجد ولد ولده لحق به حكاه التونسي ، وليس بصحيح إلا على ما نذكره ، فإن قال ابن ولدي أو ولد ابني فلا يصدق ، وإن قال أبو هذا ولدي أو والد هذا ابني صدق ، والأصل في هذا أن الرجل إنما يصدق في إلحاق ولد بفراشه لا في إلحاقه بفراش غيره ، وهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه ا هـ .

زاد ابن عرفة الباجي مالك رضي الله تعالى عنه في كتاب ابن سحنون لا يصلح استلحاق الجد ، ولا يصح إلا من الأب ما علمت فيه خلافا . وقال أشهب يستلحق الأب والجد . ا هـ . ونقل كلام الباجي كالمنكت به على كلام ابن رشد ابن عرفة استلحاق الأم لغو . وفي نوازل سحنون في رجل له امرأة وله ولد فزعمت المرأة أنه ولدها من زوج غيره ، وزعم الزوج أنه ولده من امرأة غيرهاأنه يلحق بالزوج ولا يقبل قول المرأة . ابن رشد لا اختلاف أعلمه أنها لا يجوز لها استلحاق ولد بخلاف الأب ، لأن الولد ينسب إلى أبيه لا إلى أمه ، ولولا ما حكم به لكان نسبته إلى أمه أولى لأنها أخص به من أبيه ، لأنهما اشتركا في الماء ، واختصت بالحمل والوضع ابن عرفة في القذف منها إن نظرت امرأة إلى رجل فقالت ابني ومثله يولد لها وصدقها فلا يثبت نسبه منها ، إذ ليس هنا أب يلحق به ، وفي الولاء منها إن جاءت امرأة بغلام مفصول فادعت أنه ولدها فلا يلحق بها في ميراث ولا يحد من افترى عليها به . ابن يونس سحنون ما علمت بين الناس اختلافا أن إقرار الرجل بولد ولد أو جد أو [ ص: 474 ] أخ أو غيرهم من سائر القرابات لا يجوز ولا يثبت مع وارث معروف أو مع غير وارث . قال هو وأصبغ وإن لم يكن له وارث معروف ولا مولى غير هذا المقر به ، فإنه يجوز إقراره له ويستوجب ميراثه ، ولا يثبت به نسب . وإن أتى بعد ذلك آخر وأقام البينة أنه وارثه كان أحق بالميراث من المقر له . وقال سحنون أيضا لا يجوز إقراره له ولا يرثه ، وإن لم يكن له وارث معروف لأن المسلمين يرثونه بذلك كالوارث المعروف . أصبغ إن أقر بأن هذا الرجل وارثه وله ورثة معروفون ولم يمت لمقر حتى مات ورثته المعروفون ، فإن ميراثه لهذا الذي أقر له أنه وارثه وكأنه أقر به ولا وارث له .

وإنما يستلحق الأب ( مجهول النسب ) فيها لمالك من ادعى ولدا لا يعرف كذبه فيه لحق به . ابن القاسم الذي يتبين به كذبه مثل أن يكون له أب معروف أو هو من المحمولين من بلدة علم أنه لم يدخلها كالزنج والصقالبة ، أو تقوم بينة أن أمه لم تزل زوجة لغيره حتى ماتت ، وأما إن استلحق محمولا من بلدة دخلها لحق به في تهذيب الطالب بعض أشياخنا إذا قامت بينة أن أم الصبي لم تزل زوجة لفلان وجب الحد على هذا المدعي ، وكذا نحى بعض أشياخنا أنه إذا عرف للولد نسب وادعاه رجل فإنه يحد المدعي ، وكأنه نفاه من نسبه ، وفي هذا عندي نظر ا هـ . أبو الحسن إن قامت البينة أنها لم تزل زوجة لغيره يحد حد قذف لأنه نفاه عن نسبه .

( إن لم يكذبه ) أي الأب في استلحاقه ( العقل لصغره ) أي الأب عمن استلحقه الأب علة لتكذيبه ، وعبر ابن شاس بالحس بدل العقل ( أو ) لم تكذبه ( العادة ) لكون المستلحق بكسر الحاء لم يدخل البلد الذي ولد به المستلحق بفتحها ( أو ) لم يكذبه ( الشرع ) كاستلحاق معروف النسب . ابن عرفة ويبطله مانع العقل ككونه ليس بأسن ممن ادعى أنه ابنه أو العادة ككونه لم يدخل حيث ولد من ادعى أنه ابنه أو الشرع كشهرة نسبته لغيره فيها من باع صغيرا ثم أقر أنه ابنه صدق في قول مالك رضي الله تعالى عنه ، ولو لم يولد عنده إلا أن يتبين كذبه [ ص: 475 ] كمن ولد بأرض شرك وأتي به فادعاه من لم يدخل تلك البلدة قط ، أو تقوم بينة أن أمه لم تزل زوجة لفلان حتى ماتت وإن شهدت أنها لم تزل ملكا لفلان فلا أدري ، ولعله تزوجها وفيها مما يتبين كذبه له أن يكون للولد أب معروف .

( و ) إن ( لم يكن ) المستلحق بالفتح ( رقا لمكذبه ) أي المستلحق بالكسر في استلحاقه ، فإن كان رقا لمكذبه فلا يصدق في الظاهر في استلحاقه لاتهامه برفع ملك مالكه عنه ( أو ) أي لم يكن ( مولى ) بفتح الميم أي عليه ولا بالعتق لمكذبه ، فإن كان مولى لمكذبه فلا يصدق في الظاهر لاتهامه برفع الولاء عنه ( لكنه ) أي المستلحق بالفتح ( يلحق ) أي المستلحق بالفتح ( به ) أي المستلحق بالكسر في الصورتين في الباطن ، إذ لا يمتنع كونه ابنا لمن استلحقه ، ومولى لمعتقه أو رقا لمالكه ، فإن ملكه المستلحق بالكسر عتق عليه ، وإن أعتقه مالكه ورث المستلحق بالكسر فيها لابن القاسم إن استلحق صبيا في ملك غيره أو بعد أن أعتق غيره فلا يصدق إن أكذبه الحائز لرقه أو لولائه ولا يرثه إلا ببينة تثبت . وفيها لابن القاسم إن ادعاه بعد عتق المبتاع الأم والولد مضى ذلك وألحقت به نسب الولد ولم أزل عن المبتاع ما ثبت له من ولائهما ويرد البائع الثمن ، لأنه ثمن أم ولد ، وكذلك إن استلحقه بعد موتها فإنه يرد الثمن لأنه ثمن أم ولد .

وقيل لابن القاسم أرأيت من باع صبيا ولد عنده فأعتقه المبتاع ثم استلحقه البائع أن تقبل دعواه وينقض البيع فيه ولا يعتق ، قال أرى إن لم يتبين كذب البائع فالقول قوله . سحنون هذه المسألة أعدل قوله في هذا الأصل ، وفيها لمالك رضي الله تعالى عنه من باع صبيا ولد عنده ثم أقر بعد ذلك أنه ابنه لحق به ورد الثمن إلا أن يتبين كذبه . ابن عبد الرحمن ويرجع المشتري على البائع بنفقة الولد إلى يوم استحقاقه كمن تعمد طرح ولده . وقيل بل هو كمن اشترى عبدا فاستحق بحرية لا يغرم أجر خدمته [ ص: 476 ] فكذلك هذا لا يرجع بنفقته صغيرا كان أو كبيرا . وقال غيرهما إن كان صغيرا لا خدمة فيه رجع بنفقته ، وإن كان فيه خدمة وأقر المبتاع باستخدامه أو ثبت ببينة فلا نفقة له والنفقة بالخدمة . ابن يونس وهذا أعدلها ، وذكر مثله عن سحنون أفاده . " ق " .

الحط قوله ولم يكن رقا لمكذبه أو مولى لكنه يلحق به ، كذا في النسخ التي رأيناها ، وظاهره متدافع ، لأن أول الكلام يقتضي أن شرط الاستلحاق أن لا يكون المستلحق رقا لمن يكذب المستلحق ، أو مولى له ، وأنه إن كان كذلك لا يصح الاستلحاق ، وقوله آخر لكنه يلحق به مناقض له فلا يصح حمله على قول ابن القاسم في المدونة ولا على قول أشهب . قال ابن القاسم في المدونة من استلحق صبيا في ملك غيره أو بعد أن أعتقه غيره فلا يصدق إذا أكذبه الحائز لرقه أو لولائه ولا يرثه لا ببينة تثبت . أبو الحسن هذا هو الوجه الثالث لابن يونس ، وأشار إلى قول ابن يونس استلحاق الولد عند ابن القاسم على ثلاثة أوجه ، وهو أن يستلحق ولدا ولد عنده من أمته أو ولد له بعد بيعها بمثل ما يلحق به الإنسان ولم يطلبه المبتاع ولا زوج ولم يتبين كذبه ، فهذا يلحق به بلا خلاف . والثاني أن يستلحق ولدا لم يولد عنده ولم يعلم أنه ملك أمه بشراء ولا نكاح ، فهذا يلحق به عند ابن القاسم إذا لم يتبين كذبه ولا يلحق به عند سحنون .

والثالث أن يستلحق ولدا ولد في ملك غيره أو بعد أن أعتقه غيره ، فهذا لا يلحق به عند ابن القاسم . وقال أشهب يلحق به ويكون ابنا له ومولى لمن أعتقه ، أو عبدا لمن ملكه ا هـ .

فالصواب حذف قوله لكنه يلحق به ليكون جاريا على قول ابن القاسم في المدونة ، أو عدم اشتراط ما ذكر ، وأنه يلحق بمن استلحقه مع بقاء رقه أو ولائه لحائزه ليكون جاريا على قول أشهب ، كما نقله ابن يونس عنه ، ووقع لابن القاسم أيضا في أول سماع من كتاب الاستلحاق نحوه . وقاله ابن رشد هو الصحيح ، إذ لا يمتنع كونه ولدا للمقر به المستلحق له وعبدا للذي هو في يده ، وقال هو خلاف ما في كتاب أمهات الأولاد من المدونة . البناني ، كلام المصنف لا يجري على قوله ابن القاسم ولا على قول أشهب . أما [ ص: 477 ] أشهب فلأنه قال يلحق به مع بقائه رقا أو مولى لمكذبه ولم يفصل بين من تقدم له عليه أو على أمه ملك ومن لم يتقدم له ذلك ، وأيضا قول أشهب ليس في المدونة والمصنف عزا ما هنا لها بدليل قوله وفيها أيضا إلخ .

وأما ابن القاسم فله في المدونة ثلاثة مواضع ليس هذا التفصيل واحدا منها . الأول : من استلحق صبيا في ملك غيره فإنه لا يلحق به إذا كذبه الحائز له . الثاني : من باع صبيا ثم استلحقه فإنه يلحق به وينقض البيع والعتق . الثالث : فيمن ابتاع أمة فولدت عنده فاستلحقه البائع فإنه يلحق به وينقض البيع إن لم يقع عتق وإلا مضى للعتق والولاء لمبتاع والمواضع الثلاثة في المصنف ، ونقل لفظها " ق " و " ح " ، والتفصيل المذكور لا يجري على واحد منها .

فإن قيل هل يصح بناء على جمع العوفي وأبي الحسن بين الموضعين الأولين ، قلت لا يصح لأن الموضع الثاني فيه البيع والعتق لا اللحوق فقط ، والموضع الثالث فيه التفصيل بين وقوع البيع دون عتق فينقص ، ومعه فلا ينقض ، ثم قال وذكر طخ أنه يحتمل كون قوله لكنه يلحق به ، أي إن اشتراه كما سيأتي في قوله وإن اشترى مستلحقه إلخ ، وأما جعله راجعا للمنطوق فبعيد جدا ، والله أعلم .




الخدمات العلمية