الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
غزوة أحد

فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد قدومه من بحران جمادى الآخرة ورجبا وشعبان ورمضان، فغزته كفار قريش في شوال سنة ثلاث، وقد استمدوا بحلفائهم والأحابيش من بني كنانة. وخرجوا بنسائهم لئلا يفروا عنهن. وقصدوا المدينة ، فنزلوا قرب أحد على جبل على شفير الوادي بقناة مقابل المدينة .

فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أن في سيفه ثلمة وأن بقرا له تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة. فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون وأن رجلا من أهل بيته يصاب وأن الدرع الحصينة المدينة . فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه أن لا يخرجوا إليهم وأن يتحصنوا بالمدينة فإن قربوا منها قاتلوهم على أفواه الأزقة. ووافق رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول، وأبى أكثر الأنصار إلا الخروج إليهم ليكرم الله من شاء منهم بالشهادة. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عزيمتهم دخل بيته، فلبس لأمته، وخرج ، [ ص: 146 ] وذلك يوم الجمعة، فصلى على رجل من بني النجار مات ذلك اليوم يقال له مالك بن عمرو ، وقيل: بل اسمه محرز بن عامر. وندم قوم من الذين ألحوا في الخروج وقالوا: يا رسول الله إن شئت فارجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل.

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة لمن بقي بالمدينة من المسلمين، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو أحد انصرف عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس مغاضبا، إذ خولف رأيه، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، فذكرهم الله والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا عليه، فسبهم، ورجع عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، وذكر له قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود، فأبى عليهم. وسلك على حرة بني حارثة ، وشق أموالهم حتى مشى على مال لمربع بن قيظي وكان ضرير البصر فقام يحثو التراب في وجوه المسلمين ويقول: إن كنت رسول الله فلا يحل لك أن تدخل حائطي وأكثر من القول. فابتدره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، فقال عليه السلام: لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر. وضربه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل بقوسه فشجه في رأسه. ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم. وسرحت قريش الظهر والكراع في زروع المسلمين بقناة. وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال، وهو في سبعمائة، وقيل: إن المشركين كانوا ثلاثة آلاف فيهم مائتا فارس، وقيل: كان في المسلمين يومئذ خمسون فارسا. وكان رماة المسلمين خمسين رجلا. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف وهو أخو خوات بن جبير، وعبد الله يومئذ معلم [ ص: 147 ] بثياب بيض، فرتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف الجيش، وأمره بأن ينضح المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم. وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أحد بني عبد الدار . وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سمرة بن جندب الفزاري ورافع بن خديج ولكل واحد منهما خمس عشرة سنة. وكان رافع راميا. ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد والبراء بن عازب وأسيد بن ظهير وعرابة بن أوس وزيد بن أرقم وأبا سعيد الخدري، ثم أجازهم كلهم - عليه السلام - يوم الخندق. وقد قيل إن بعض هؤلاء إنما رده يوم بدر وأجازه يوم أحد. وإنما رد من لم يبلغ خمس عشرة سنة وأجاز من بلغها. وجعلت قريش على ميمنتهم في الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم في الخيل عكرمة بن أبي جهل . ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه إلى أبي دجانة الأنصاري سماك بن خرشة الساعدي وكان شجاعا يختال في الحرب. وكان أبو عامر المعروف بالراهب - وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق واسمه عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان أحد بني ضبيعة وهو والد حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة - قد ترهب وتنسك في الجاهلية، فلما جاء الإسلام غلب عليه الشقاء، ففر عن المدينة إذ نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مباعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومبغضا فيه وخرج إلى مكة في جماعة من فتيان الأوس، وشهد يوم أحد مع الكفار، ووعد قريشا بانحراف قومه إليه، فكان أول من خرج للقاء المسلمين في عبدان أهل مكة والأحابيش. فلما [ ص: 148 ] نادى قومه وعرفهم بنفسه قالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق، فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتل المسلمين قتالا شديدا.

وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أمت أمت. وأبلى يومئذ علي وحمزة وأبو دجانة وطلحة بلاء حسنا، وأبلى أنس بن النضر يومئذ بلاء حسنا وكذلك جماعة من الأنصار أبلوا وأصيبوا يومئذ مقبلين غير مدبرين. وقاتل الناس قتالا شديدا ببصائر ثابتة، فانهزمت قريش ، واستمرت الهزيمة عليهم، فلما رأى ذلك الرماة قالوا: قد هزم أعداء الله فما لقعودنا هاهنا معنى. فذكرهم أميرهم عبد الله بن جبير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بأن لا يزولوا فقالوا: قد انهزموا ولم يلتفتوا إلى قوله، وقاموا. ثم كر المشركون وولى المسلمون وثبت من أكرمه الله منهم بالشهادة. ووصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقاتل دونه مصعب بن عمير حتى قتل رضي الله عنه، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر وهشمت البيضة [ على ] رأسه صلى الله عليه وسلم وجزاه عن أمته بأفضل ما جزى به نبيا من أنبيائه عن صبره. وكان الذي تولى ذلك من النبي عليه السلام عمرو بن قمئة الليثي وعتبة بن أبي وقاص.

وقد قيل إن عبد الله بن شهاب جد الفقيه محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبهته. وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط في حفرة كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين، فخر عليه السلام على جنبه، فأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة حتى قام. ومص مالك بن سنان - والد أبي سعيد الخدري - من جرح [ ص: 149 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه صلى الله عليه وسلم، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح - وعض عليهما - بثنيتيه، فسقطتا، وكان الهتم يزينه. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية - حين قتل مصعب بن عمير - علي بن أبي طالب .

وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راية الأنصار. وشد حنظلة الغسيل بن أبي عامر على أبي سفيان بن حرب، فلما تمكن منه حمل شداد بن الأسود الليثي - وهو ابن شعوب - على حنظلة، فقتله. وكان جنبا فغسلته الملائكة، أخبر بذلك جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر رسول الله بذلك أصحابه، وقال: كان حنظلة قد قام من امرأته جنبا فغسلته الملائكة.

وقتل صاحب لواء المشركين، فسقط لواؤهم، فرفعته عمرة بنت علقمة الحارثية للمشركين فاجتمعوا إليه، وحملوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكر دونه نفر من الأنصار، قيل سبعة، وقيل عشرة، فقتلوا كلهم، وكان آخرهم عمارة بن يزيد بن السكن أو زياد بن السكن. وقاتل يومئذ طلحة قتالا شديدا، وقاتلت أم عمارة الأنصارية، وهي نسيبة بنت كعب قتالا شديدا، وضربت عمرو بن قمئة بالسيف ضربات فوقاه درعان كانتا عليه وضربها عمرو بالسيف فجرحها جرحا عظيما على عاتقها. وترس أبو دجانة بظهره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك، وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: ارم فداك أبي وأمي. وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان الظفري فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعينه على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وغمزها فكانت أجمل عينيه وأصحهما.

وانتهى أنس بن النضر، وهو عم أنس بن مالك ، يومئذ إلى جماعة من الصحابة قد ألقوا بأيديهم، فقال [ لهم ] : ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استقبل [ ص: 150 ] الناس، ولقي سعد بن معاذ فقال له: يا سعد والله إني لأجد ريح الجنة من قبل أحد، فقاتل حتى قتل، رضي الله عنه، وجد به أزيد من سبعين جرحا من بين ضربة وطعنة ورمية فما عرفته إلا أخته ببنانه، ميزته، وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحو عشرين جراحة بعضها في رجله، فعرج منها - رحمه الله - إلى أن مات.

وأول من ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الجولة كعب بن مالك الشاعر، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنصت. فلما عرفه المسلمون مالوا إليه وصاروا حوله ونهضوا معه نحو الشعب، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير والحارث بن الصمة الأنصاري وجماعة من الأنصار. فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف الجمحي، فتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، ثم طعنه بها في عنقه، فكر أبي منهزما، فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله لو بزق علي لقتلني، أليس قد قال: بل أنا أقتله. وكان قد أوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل بمكة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك. فمات عدو الله من ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرجعه إلى مكة بموضع يقال له: سرف.

وملأ علي درقته من ماء المهراس وأتى به رسول الله ليشربه، فوجد فيه رائحة، فعافه وغسل به من الدم وجهه، ونهض إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وكان عليه درعان وكان قد بدن، فلم يقدر [ أن ] يعلوها، فجلس له طلحة ، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهره، ثم استقل به طلحة حتى استوى على الصخرة. وحانت الصلاة، فصلى جالسا والمسلمون وراءه قعودا.


التالي السابق


الخدمات العلمية