الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
غزوة بني قريظة

فخرج المسلمون مبادرين إلى بني قريظة ، فطائفة خافوا فوات الوقت فصلوا وطائفة قالوا: والله لا صلينا العصر إلا في بني قريظة ، فبذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم علم - صلى الله عليه وسلم - باجتهادهم، فلم يعنف واحدا منهم.

وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية علي بن أبي طالب ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم. ونهض علي وطائفة معه حتى أتوا بني قريظة ونازلوهم وسمعوا سب رسول الله فانصرف علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله لا تبلغ إليهم وعرض له. فقال له: أظنك سمعت منهم شتمي، لو رأوني لكفوا عن ذلك. ونهض إليهم، فلما رأوه أمسكوا، فقال لهم: نقضتم العهد يا إخوة القرود، أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته، فقالوا: ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا.

ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، وعرض عليهم سيدهم كعب بن أسد ثلاث خصال ليختاروا أيها شاؤوا: إما أن يسلموا ويتبعوا محمدا على ما جاء به فيسلموا، قال: وتحرزوا أموالكم ونساءكم وأبناءكم فوالله إنكم لتعلمون أنه الذي تجدونه في كتابكم. وإما أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يتقدموا فيقاتلوا حتى يموتوا عن آخرهم. وإما أن يبيتوا المسلمين ليلة السبت في حين طمأنينتهم فيقتلوهم قتلا. فقالوا له: أما الإسلام فلا نسلم ولا نخالف حكم التوراة، وأما قتل أبنائنا ونسائنا فما جزاؤهم المساكين منا أن نقتلهم، ونحن لا نتعدى [ في ] السبت [ ص: 179 ] .

ثم بعثوا إلى أبي لبابة، وكانوا حلفاء بني عمرو بن عوف وسائر الأوس، فأتاهم، فجمعوا إليه أبناءهم ورجالهم ونساءهم وقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ فقال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، إنه الذبح إن فعلتم. ثم ندم أبو لبابة في الحين، وعلم أنه خان الله ورسوله، وأنه أمر لا يستره الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم. فانطلق إلى المدينة - ولم يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فربط نفسه في سارية، وأقسم لا يبرح مكانه حتى يتوب الله عليه. فكانت امرأته تحله لوقت كل صلاة. قال ابن عيينة وغيره: فيه نزلت: ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ) . وأقسم أن لا يدخل أرض بني قريظة أبدا، مكانا أصاب فيه الذم. فلما بلغ ذلك النبي من فعل أبي لبابة قال: أما إنه لو أتاني لاستغفرت له، وأما إذا فعل فلست أطلقه حتى يطلقه الله فأنزل الله تعالى في أمر أبي لبابة: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) - الآية فلما نزل فيه القرآن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقه.

ونزل - في تلك الليلة التي في صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثعلبة، وأسيد ابنا سعية، وأسد بن عبيد، وهم نفر من هدل بني عم قريظة والنضير وليسوا من قريظة والنضير ، نزلوا مسلمين، فأحرزوا أموالهم وأنفسهم. وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى [ القرظي ] ومر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه محمد بن مسلمة [ ص: 180 ] وكان قد أبى أن يدخل فيما دخل فيه بنو قريظة وقال: لا أغدر بمحمد أبدا، فقال له محمد بن مسلمة إذ عرفه: اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام. فخرج على وجهه حتى بات في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذهب فلم ير بعد ولم يعلم حيث سقط. وذكر - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره، فقال: ذلك رجل نجاه الله بوفائه.

فلما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثب الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله قد علمت أنهم حلفاؤنا، وقد شفعت عبد الله بن أبي بن سلول في بني قينقاع حلفاء الخزرج، فلا يكن حظنا أوكس وأنقص عندك من حظ غيرنا، فهم موالينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذلك إلى سعد بن معاذ . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ضرب له خيمة في المسجد، ليعوده من قريب في مرضه من جرحه الذي أصابه في الخندق. فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه فاحتملوه على حمار، وقد وطئوا له بوسادة من أدم وكان رجلا جسيما. ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحاطوا به في طريقهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في [ مواليك ] فإنما ولاك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لتحسن إليهم، فقال لهم: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من معه إلى ديار بني عبد الأشهل فنعى إليهم رجال بني قريظة . فلما أطل سعد على النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: قوموا إلى سيدكم فقام المسلمون، فقالوا: ياأبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه: أن الحكم فيهم ما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من هنا؟ من الناحية التي فيها [ ص: 181 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله إجلالا له. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال سعد: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء، وتقسم الأموال، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة وأمر بهم رسول الله فأخرجوا إلى موضع [ سوق المدينة ] فخندق بها خنادق، ثم أمر بهم النبي عليه السلام فضربت أعناقهم في تلك الخنادق وقتل يومئذ حيي بن أخطب وكعب بن أسد. وكانوا من الستمائة إلى السبعمائة. وقتل من نسائهم امرأة، وهي بنانة امرأة الحكم القرظي التي طرحت الرحى على خلاد بن سويد، فقتلته.

وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل كل من أنبت منهم وترك كل من لم ينبت: وكان عطية القرظي من جملة من لم ينبت فاستحياه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مذكور في الصحابة. ووهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن الشماس ولد الزبير بن باطا، فاستحياهم، منهم عبد الرحمن بن الزبير أسلم وله صحبة ووهب أيضا - عليه السلام - رفاعة بن سموءل القرظي لأم المنذر سلمى بنت قيس أخت سليط بن قيس من بني [ ص: 182 ] النجار، وكانت قد صلت القبلتين. فأسلم رفاعة، وله صحبة ورواية.

وقسم عليه السلام أموال بني قريظة ، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما، وقد قيل للفارس سهمان وللراجل سهم. وكانت الخيل للمسلمين يومئذ ستة وثلاثون فرسا، ووقع للنبي من [ سبيهم ] ريحانة بنت عمرو بن خناقة إحدى بني عمرو بن قريظة ، فلم تزل عنده إلى أن مات صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن غنيمة قريظة هي أول غنيمة قسم فيها للفارس والراجل وأول غنيمة جعل فيها الخمس [ لله ورسوله ] وقد تقدم أن أول ذلك كان في بعث عبد الله بن جحش: والله أعلم. وتهذيب ذلك أن تكون غنيمة بني قريظة أول غنيمة فيها الخمس بعد نزول قوله تعالى: ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) وكان عبد الله قد خمس قبل ذلك في بعثه ثم نزل القرآن بمثل فعله، وذلك من فضائله رحمة الله عليه، وقد ذكرنا خبره في بابه من كتاب الصحابة.

وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة فلما تم أمر بني قريظة أجيبت دعوة الرجل الصالح سعد بن معاذ فانفجر جرحه، وانفتح عرقه، فجرى دمه ومات، رضي الله عنه. وهو الذي أتى الحديث فيه أنه اهتز لموته عرش الرحمن يعني سكان العرش من الملائكة، فرحوا بقدوم روحه واهتزوا له.

التالي السابق


الخدمات العلمية