الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل

قال الفقيه أبو عمر رضي الله عنه:

فلما أوقع الله عز وجل بالمشركين يوم بدر واستأصل وجوههم قالوا إن ثأرنا بأرض الحبشة فلنرسل إلى ملكها يدفع إلينا من عنده من أتباع محمد ، فنقتلهم بمن قتل منا ببدر.

بعث مشركي قريش عمرو بن العاص وابن أبي ربيعة إلى النجاشي

وبالإسناد قال الفقيه أبو عمر :

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال: أنبأنا محمد بن بكر ، قال: أنبأنا أبو داود ، قال: أنبأنا ابن السرح، قال: أنبأنا ابن وهب ، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب ، قال: بلغني أن مخرج عمرو بن العاص وابن أبي ربيعة إلى أرض الحبشة فيمن كان بأرضهم من المسلمين كان بعد وقعة بدر. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مخرجهما بعث عمرو بن أمية الضمري من المدينة إلى النجاشي بكتاب.

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال: أنبأنا محمد بن بكر ، قال: أنبأنا أبو داود ، قال: أنبأنا محمد بن سلمة المرادي ، قال: أنبأنا ابن وهب ، قال: أخبرني ابن يونس عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعن سعيد بن المسيب ، وعن عروة بن الزبير : [ ص: 132 ] أن الهجرة الأولى هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة ، وأنه هاجر في تلك الهجرة جعفر بن أبي طالب بامرأته أسماء بنت عميس ، وعثمان بن عفان بامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سلمة بن عبد الأسد بامرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وخالد بن سعيد بن العاص بامرأته. وهاجر فيها رجال من قريش ذوو عدد ليس معهم نساؤهم. فلما أري رسول الله دار هجرتهم قال لأصحابه: قد أريت دار هجرتكم: سبخة ذات نخل بين لابتين وهي المدينة . فهاجر إليها من كان معه، ورجع رجال من أرض الحبشة حين سمعوا بذلك، فهاجروا إلى المدينة ، منهم عثمان بابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سلمة بامرأته أم سلمة وحبس (مكث) بأرض الحبشة جعفر بن أبي طالب ، وحاطب بن الحارث، ومعمر بن عبد الله العدوي، وعبد الله بن شهاب، ورجال ذوو عدد من المهاجرين من قريش الذين هاجروا إلى أرض الحبشة حالت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب. فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار قال كفار قريش : إن ثأركم بأرض الحبشة ، فأهدوا إلى النجاشي وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم، لعله يعطيكم من عنده من قريش ، فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر. فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وأهدوا للنجاشي ولعظماء الحبشة هدايا. فلما قدما على النجاشي قبل هداياهم، وأجلس معه عمرو بن العاص على سريره. [ فكلم النجاشي فقال إن بأرضك رجالا منا ليسوا على دينك ولا على ديننا فادفعهم إلينا فقال عظماء الحبشة للنجاشي: صدق، فادفعهم إليه، فقال النجاشي : فلا والله لا أدفعهم حتى أكلمهم فأنظر على أي شيء هم فأرسل النجاشي فيهم وأجلس معه عمرو بن العاص على سريره ] فقال لهم النجاشي : ما دينكم؟ أنصارى أنتم؟ قالوا: لا. قال: فما دينكم؟ قالوا: ديننا الإسلام، قال: وما الإسلام؟ قالوا: نعبد الله ولا نشرك به شيئا، قال: ومن جاءكم [ ص: 133 ] بهذا؟ قالوا: جاءنا به رجل من أنفسنا قد عرفنا وجهه ونسبه أنزل الله عليه كتابه، فعرفنا كلام الله وصدقناه. قال لهم النجاشي : فبم يأمركم؟ قالوا: يأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، ويأمرنا أن نترك ما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة وبالوفاء وبأداء الأمانة وبالعفاف.

قال النجاشي : فوالله إن خرج هذا إلا من المشكاة التي خرج منها أمر موسى عليه السلام، فقال عمرو بن العاص حين سمع ذلك من النجاشي : إن هؤلاء يزعمون أن ابن مريم إلهك الذي تعبد عبد. فقال النجاشي لجعفر ومن معه من المهاجرين: ماذا تقولون في عيسى بن مريم ؟ قالوا: نقول هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وابن العذراء البتول. فخفض النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عودا وقال: والله ما زاد على ذلك قدر هذا العود. فقال عظماء الحبشة : والله لئن سمعت الحبشة بهذا لتخلعنك. فقال النجاشي : والله لا أقول في ابن مريم غير هذا القول أبدا، إن الله لم يطع في الناس حين رد إلي ملكي فأنا أطيع الناس في الله، معاذ الله من ذلك. ارجعوا إلى هذا هديته، فوالله لو رشوني دبرا من ذهب ما قبلته. والدبر: الجبل، قال الهروي: لا أدري عربي أم لا. ثم قال: من نظر إلى هؤلاء الرهط نظرة يؤذيهم بها فقد غرم، ومعنى غرم هلك في قوله تعالى: ( إن عذابها كان غراما ) - فخرج عمرو بن العاص وابن أبي ربيعة وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعث قريش عمرو بن العاص إلى النجاشي ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه إلى النجاشي ، فقدم [ ص: 134 ] على النجاشي ، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين، فجمعهم، ثم أمر جعفرا يقرأ عليهم القرآن، فقرأ سورة مريم: ( كهيعص ) وقاموا تفيض أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله فيهم: ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ) وقرأ عليهم إلى ( الشاهدين ) .


التالي السابق


الخدمات العلمية