الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
البعث إلى كعب بن الأشرف

ولما اتصل بكعب بن الأشرف - وهو رجل من نبهان من طيئ وأمه من بني النضير - قتل صناديد قريش ببدر قال: بطن الأرض خير من ظهرها. ونهض إلى مكة ، فجعل يرثي قتلى قريش ، ويحرض على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شاعرا. ثم انصرف إلى موضعه فلم يزل يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعو إلى خلافه ويسب المسلمين حتى آذاهم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لي بابن الأشرف فإنه يؤذي الله ورسوله والمؤمنين؟ فقال له محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا أقتله إن شاء الله، قال: فافعل إن قدرت على [ ص: 143 ] ذلك. فمكث محمد بن مسلمة أياما مشغول النفس بما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه في قتل ابن الأشرف، وأتى أبا نائلة سلكان بن سلامة بن وقش وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة وعباد بن بشر بن وقش والحارث بن أوس بن معاذ وأبا عبس بن جبر ، فأعلمهم بما وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل ابن الأشرف، فأجابوه إلى ذلك، وقالوا: كلنا - يا رسول الله - نقتله. ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله إنه لا بد لنا أن نقول، فقال: قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل.

ثم قدموا إلى كعب بن الأشرف أبا نائلة، فجاءه وتحدث معه ساعة، وتناشدا الشعر. وكان أبو نائلة يقول الشعر أيضا، فقال له أبو نائلة: يا بن الأشرف إني جئت في حاجة أذكرها لك فاكتم علي، قال: أفعل. قال: إن قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس وأصبحنا قد جهدنا. فقال كعب: أنا ابن الأشرف أما والله لقد كنت أحدثك يا بن سلامة أن أمركم سيصير إلى هذا. فقال له سلكان: إني أريد أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك ونحسن في ذلك، قال: أترهنوني أبناءكم أو نساءكم، قال: لقد أردت أن تفضحنا، أنت أجمل العرب فكيف نرهنك نساءنا. وكيف نرهنك أبناءنا فيعير أحدهم، فيقال: رهن وسق ورهن وسقين. إن معي أصحابا على [ ص: 144 ] مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم وتحسن في ذلك ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء - وأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح عليهم إذا أتوه - قال: إن في الحلقة لوفاء. فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم الخبر. وأمرهم أن يأخذوا السلاح ويأتوا رسول الله، ففعلوا واجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمشى بهم إلى بقيع الغرقد. ثم وجههم، وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم. ورجع عنهم فنهضوا - وكانت ليلة مقمرة - حتى انتهوا إلى حصنه. فهتف به أبو نائلة - وكان كعب حديث عهد بعرس، فوثب في ملحفة، فأخذت امرأته بناحيتها، وقالت: إنك امرؤ محارب، وإن أهل الحرب لا ينزلون في مثل هذه الساعة! فقال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني. فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، فقال لها كعب: لو دعي الفتى إلى طعنة أجاب. فنزل فتحدث معهم ساعة، ثم قالوا له: يا ابن الأشرف لو رأيت أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون. ثم إن أبا نائلة مس فود رأسه بيده ثم شمها، وقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر، ثم مشى ساعة وعاد لمثلها، حتى اطمأن، ثم مشى ساعة وعاد لمثلها وأخذ بفودي رأسه، وقال: اضربوا عدو الله، فضربوه بأسيافهم، فصاح صيحة منكرة سمعها أهل الحصون، فأوقدوا النيران، واختلفت سيوفهم فلم تعمل شيئا.

قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا في سيفي حين رأيت أسيافهم لا تغني، فأخذته - وقد صاح عدو الله صيحة أسمعت كل حصن حوله - فوضعته في ثنته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، فوقع عدو الله ميتا.

وأصاب الحارث بن أوس يومئذ جرح في رجله أو في رأسه ببعض سيوف أصحابه، [ ص: 145 ] فتأخر، ونجا أصحابه وسلكوا على دور بني أمية بن زيد إلى بني قريظة إلى بعاث إلى حرة العريض. وانتظروا هنالك صاحبهم حتى وافاهم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الليل وهو يصلي، فأخبروه، فتفل في جرح الحارث بن أوس، فبرئ. وأطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على قتل اليهود. وحينئذ أسلم حويصة بن مسعود وقد كان أسلم أخوه محيصة قبله.


التالي السابق


الخدمات العلمية