الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ حديث جابر في حجة الوداع ]

وأحسن حديث في الحج وأتمه حديث جابر ، حدثناه أحمد بن سعيد بن بشر وأحمد بن قاسم بن عبد الرحمن، قالا: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي دليم، قال: حدثنا محمد بن وضاح، قال: حدثنا محمد بن مسعود ، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن جعفر بن محمد ، حدثني أبي، قال: أتينا جابر بن عبد الله ، وهو في بني سلمة، فسألناه عن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحدثنا:

أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث بالمدينة تسع سنين، ثم أذن في الناس أن رسول الله حاج العام، فنزل بالمدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله ويفعل ما يفعل. فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة وخرجنا معه، حتى أتى ذا [ ص: 261 ] الحليفة. ونفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اغتسلي واستثفري بثوب، ثم أهلي. فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. قال: ولبى الناس، والناس يزيدون: ذا المعارج ونحوه من الكلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع ولا يقول لهم شيئا. فنظرت مد بصري بين يدي رسول الله، من راكب وماش، ومن خلفه مثل ذلك، وعن يمينه مثل ذلك، وعن شماله مثل ذلك. قال جابر : ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا ينزل عليه القرآن، وهو يعلم تأويله، وما عمل به من شيء عملنا. فخرجنا لا ننوي إلا الحج حتى أتينا الكعبة، فاستلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحجر الأسود ، ثم رمل ثلاثا ومشى أربعا. حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ: ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) . قال جعفر: قال أبي: فقرأ فيهما بالتوحيد: ( قل هو الله أحد ) و ( قل يا أيها الكافرون ) . ثم استلم الحجر [ الأسود ] ثم خرج إلى الصفا فقال: نبدأ بما بدأ الله به وقرأ: ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) . ورقى على الصفا حتى إذا نظر إلى البيت كبر ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله [ وحده ] أنجز وعده، وصدق عبده. وغلب - أو قال هزم الأحزاب وحده [ ثم دعا ] ثم رجع إلى هذا الكلام، ثم [ ص: 262 ] دعا ثم رجع إلى هذا الكلام. ثم نزل حتى إذا انصبت قدماه في الوادي سعى حتى صعد مشيا حتى أتى المروة فرقى عليها. حتى إذا نظر إلى البيت قال عليها كما قال على الصفا. فلما كان السابع بالمروة قال: يا أيها الناس إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة ، فمن لم يكن معه هدي فليحل وليجعلها عمرة ، فحل الناس كلهم. وقال سراقة بن جعثم، وهو في أسفل المروة : يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه، ثم قال: للأبد بل لأبد [ الأبد ] ثلاث مرات، وقال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة. وقدم علي رضي الله عنه من اليمن وقدم معه بهدي، وساق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه هديا من المدينة ، فإذا فاطمة قد حلت ولبست ثيابا صابغة واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، قالت: أمرني أبي. قال علي بالكوفة ، لم يذكره جابر : فانطلقت محرشا أستفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الذي ذكرت فاطمة . قال: قلت إن فاطمة لبست ثيابا صابغة واكتحلت، وقالت: أمرني أبي، قال: صدقت، صدقت، أنا أمرتها. قال جابر : فقال لعلي: بم أهللت؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال عليه السلام: فإن معي الهدي فلا تحل بحال. وكان جماعة الهدي الذي أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة والذي أتى به علي مائة. فنحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ثلاثا وستين، وأعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه. ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كل [ ص: 263 ] بدنة ببضعة فجعلت في قدر، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر، ووقف بعرفة وقال: وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف. ثم أتى المزدلفة فقال: وقفت هاهنا، ومزدلفة كلها موقف.


أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال: حدثني محمد بن بكر ، قال: حدثنا سليمان بن الأشعث أبو داود ، قال: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي وعثمان بن أبي شيبة وهشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن، وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة، قالوا: حدثنا حاتم بن إسماعيل: [ و ] حدثنا سعيد بن نصر، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال: حدثنا محمد بن وضاح، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل. وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال: حدثنا أحمد بن زهير ، قال: حدثنا محمد بن سعيد الأصفهاني وهارون بن معروف، قالا: حدثنا حاتم بن إسماعيل. وبعضهم يزيد على بعض الكلمة والكلمتين والمعنى واحد. قال: حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه، قال:

دخلنا على جابر بن عبد الله ، وهو يومئذ قد ذهب بصره، فسأل عن القوم حتى انتهى إلي، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين بن علي، وأنا يومئذ غلام شاب، فرحب وسهل، ودعا لي. فقالوا: جئنا نسألك فقال لي: سل عما شئت يا ابن أخي، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعقد تسعا ثم قال:

إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعمل بمثل عمله. فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع؟ قال: اغتسلي [ ص: 264 ] واستثفري بثوب وأحرمي. وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه ويساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله، فما عمل به من شيء عملنا به. فأهل بالتوحيد. لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وأهل الناس بهذا يهلون [ به ] فلم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ عليهم ] شيئا منه، ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلبيته، قال جابر : لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم ، فقرأ: ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) فجعل المقام بينه وبين البيت. قال جعفر: فكان أبي يقول - ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه كان يقرأ في الركعتين: ( قل هو الله أحد ) و ( قل يا أيها الكافرون ) ثم رجع إلى الركن فاستلمه. ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) نبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، ووحد الله وكبره، وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك، وقال مثل هذا ثلاث مرات [ ص: 265 ] ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة . ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان في آخر طواف على المروة قال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة ، فمن كان [ منكم ] ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة ، فحل الناس كلهم إلا النبي عليه السلام ومن كان معه هدي. فقال سراقة بن جعثم: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه ثم قال: دخلت العمرة في الحج، مرتين لا بل لأبد الأبد. قال: وقدم علي من اليمن ببدن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثيابا صبيغا، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبي أمرني بهذا. فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرشا على فاطمة ، للذي صنعت، مستفتيا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه، وأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: صدقت صدقت. ثم قال: ماذا قلت حين فرضت الحج، قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال: فإن معي الهدي فلا تحل. قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة مائة. قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي عليه السلام ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج. وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح. ثم مكث قليلا، حتى طلعت الشمس. وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة. فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - ولا [ ص: 266 ] تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية - فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له. فأتى بطن الوادي، فخطب الناس فقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا [ في بلدكم هذا ] ألا كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ربيعة بن الحارث - كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل - وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع [ ربانا ]: ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. واتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن [ ذلك ] فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده أبدا إن اعتصمتم به: كتاب الله. وأنتم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ويشير إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات. ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى [ ص: 267 ] العصر، ولم يصل بينهما شيئا. ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حين غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه، ودفع وقد شنق القصواء، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، [ و ] يقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة، السكينة، كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا. ثم اضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة. ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده. ولم يزل واقفا، حتى أسفر جدا. فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس ، وكان رجلا أبيض حسن الشعر وسيما. فلما دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرت [ به ] الظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على وجه الفضل [ فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده من الشق الآخر على وجه الفضل ] يصرف وجهه من الشق الآخر. حتى أتى محسرا، فحرك قليلا. ثم سلك الطريق [ ص: 268 ] الوسطى التي تخرج إلى ما يلي الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها - حصا مثل حصا الحذف - رماها من بطن الوادي. ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا، فنحر ما غبر، وأشركه في هديه. ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البيت فأفاض، وصلى بمكة الظهر. وأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم، فقال: انزعوا يا بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم. وناولوه دلوا فشرب منه - صلى الله عليه وسلم -
[ ص: 269 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية