الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
بعث بئر معونة

أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي - رحمه الله - قال: حدثنا الحسن بن إسماعيل، قال: حدثنا عبد الملك بن بجير، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ، قال: حدثنا سنيد، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن حميد، عن أنس ، قال: كان شباب من الأنصار يسمعون القرآن ينتحون ناحية من المدينة يحسب أهلوهم أنهم في المسجد ويحسب أهل المسجد أنهم في أهليهم، فيصلون من الليل حتى إذا قارب الصبح احتطبوا الحطب واستعذبوا الماء فوضعوه على أبواب حجر النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فبعثهم جميعا إلى بئر معونة، فاستشهدوا. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم على قتلتهم أياما.

قال سنيد: وحدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قال:

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الأنصاري أحد بني النجار - وهو أحد النقباء ليلة العقبة - في ثلاثين راكبا من المهاجرين والأنصار، فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب على بئر معونة وهي من مياه بني عامر، فاقتتلوا، فقتل المنذر بن عمرو وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم، فلم يرعهم إلا الطير تحوم في السماء يسقط من خراطيمها علق الدم، فقال أحد النفر: قتل أصحابنا، والرحمن. وذكر سنيد تمام الخبر في ذلك وفي بني النضير، وسياق ابن إسحاق لخبرهم [ ص: 162 ] أحسن وأبين، قال ابن إسحاق :

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر في آخر تمام السنة الثالثة من الهجرة، على رأس أربعة أشهر من أحد. وكان سبب ذلك أن أبا براء الكلابي من بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة - ويعرف بملاعب الأسنة واسمه عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب - وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك. فقال عليه السلام: إني أخشى عليهم أهل نجد ، فقال أبو براء: أنا لهم جار. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي - وهو الذي يعرف بالمعنق ليموت: لقب غلب عليه، والأكثر يقولون: أعنق ليموت - في أربعين رجلا من المسلمين، وقد قيل في سبعين رجلا من خيار المسلمين، منهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان - أخو أم سليم وأم حرام - وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق . وأمر على جميعهم المنذر بن عمرو .

فنهضوا حتى نزلوا بئر معونة - بين أرض بني عامر وحرة بني سليم وهي إلى حرة بني سليم أقرب - ثم بعثوا منها حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل. فلما أتاه لم ينظر في كتابه، حتى عدا عليه فقتله. ثم استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه، وقالوا: لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا. فاستصرخ قبائل من بني سليم: عصية ورعلا وذكوان، فأجابوه إلى ذلك. فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم. فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ثم قاتلوا، حتى قتلوا، عن آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق. وارتث [ ص: 163 ] من بين القتلى وعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا رحمه الله.

وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار من بني عمرو بن عوف وهو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح، فنظر الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنا فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال: المنذر بن محمد الأنصاري لعمرو بن أمية الضمري: ما ترى؟ فقال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر. فقال الأنصاري : ما كنت لأرغب عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ثم قاتل حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا. فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه. وخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بني عامر - وقيل من بني سليم - حتى نزلا معه في ظل هو فيه، وكان معهما عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلم به عمرو بن أمية. وكان قد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟ قالا: من بني عامر. فأمهلهما، حتى إذا ناما عدا عليهما، فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب منهما ثأره من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر قال: لقد قتلت قتيلين كان لهما مني جوار، لأدينهما، هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارها متخوفا.

فبلغ أبا براء ما صنع عامر بن الطفيل فشق عليه إخفاره إياه. وقال حسان بن ثابت يحرض أبا براء على عامر بن الطفيل:


بني أم البنين ألم يرعكم وأنتم من ذوائب أهل نجد [ ص: 164 ]     تهكم عامر بأبي براء
ليخفره وما خطأ كعمد     ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي
فما أحدثت في الحدثان بعدي     أبوك أبو الحروب أبو براء
وخالك ماجد حكم بن سعد



أم البنين هي أم أبي براء من بني عامر بن صعصعة. فحمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل، فطعنه بالرمح، فوقع في فخذه، فأشواه، ووقع عن فرسه. فقال: هذا عمل أبي براء، إن أنا مت فدمي لعمي فلا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيي .

التالي السابق


الخدمات العلمية