الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - : " ولو كان ثوبا فصبغه فزاد في قيمته قيل للغاصب إن شئت فاستخرج الصبغ على أنك ضامن لما نقص وإن شئت فأنت شريك بما زاد الصبغ فإن محق الصبغ فلم تكن له قيمة قيل ليس لك هاهنا مال يزيد فإن شئت فاستخرجه وأنت ضامن لنقصان الثوب وإن شئت فدعه وإن كان ينقص الثوب ضمن النقصان وله أن يخرج الصبغ على أن يضمن ما نقص الثوب وإن شاء ترك ( قال المزني ) هذا نظير ما مضى في نقل التراب ونحوه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها في رجل غصب ثوبا فصبغه فلا يخلو حال الصبغ من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون للغاصب .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون لرب الثوب .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكون لأجنبي . فإن كان الصبغ للغاصب فهو على ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يمكن استخراجه .

                                                                                                                                            والثاني : لا يمكن استخراجه .

                                                                                                                                            والثالث : أن يمكن استخراج بعضه ، ولا يمكن استخراج بعضه فإن لم يمكن استخراجه [ ص: 181 ] لم يخل ثمنه بعد الصبغ من ثلاثة أقسام . إما أن يكون بقدر قيمته قبل الصبغ ، أو يكون أقل ، أو يكون أكثر ، فإن كان بقدر ثمنه قبل الصبغ مثل أن يكون قيمة الثوب عشرة دراهم وقيمة الصبغ عشرة دراهم ، فيباع الثوب بعد صبغه بعشرة دراهم فهي بأثرها لرب الثوب لاستهلاك الصبغ إما بذهاب قيمته وإما لجره النقص للثوب .

                                                                                                                                            وإن كان ثمنه بعد الصبغ أقل مثل أن يساوي بعد الصبغ ثمانية دراهم فيأخذها رب الثوب ويرجع على الغاصب بنقصه وهو درهمان ليستكمل بها جميع الثمن ويصير صبغ الغاصب ونقص أجزاء الثوب مستهلكين . وإن كان ثمنه بعد الصبغ أكثر فلا يخلو حال الزيادة على ثمنه من ثلاثة أقسام : إما أن يكون بقدر ثمن الصبغ ، أو يكون أقل ، أو يكون أكثر . فإن كانت بقدر ثمن الصبغ مثل أن يكون ثمنه بعد الصبغ عشرين درهما فتكون بينهما فيأخذ رب الثوب منها عشرة التي هي ثمن ثوبه ويأخذ الغاصب عشرة هي ثمن صبغه ، ولم يحصل فيها نقص لا في الثوب ، ولا في الصبغ ، وإن كانت الزيادة أقل من ثمن الصبغ مثل أن يكون ثمنه بعد الصبغ خمسة عشر درهما فيأخذ منها رب الثوب عشرة ثمن ثوبه كاملا ويأخذ الغاصب الخمسة الباقية ويصير النقص مختصا بصبغه لضمانه نقص الثوب وإن كانت الزيادة بينهما بقدر ماليهما فيأخذ رب الثوب خمسة عشر درهما عشرة منها هي ثمن ثوبه وخمسة هي قسط الصبغ من الزيادة وإذا كانت الزيادة بينهما على قدر المالين ، ولم يختص الغاصب بها وإن كانت حادثة بعمله ؛ لأنه عمل في ماله ومال غيره فلم يحصل له عوض عن عمله في مال غيره وحصل له عوض في مال نفسه . فإن دعا أحدهما إلى بيعه ، وأبى الآخر نظر في الداعي إلى البيع فإن كان رب الثوب فله ذلك وليس للغاصب لتعديه بالصبغ أن يمنعه من البيع فيستديم حكم الغصب ، وإن دعا الغاصب إلى بيعه ليتوصل إلى ثمن صبغه وأبى رب الثوب فإن بذل له مع إبائه ثمن الصبغ الذي يستحق لو بيع الثوب فله ذلك ، ولا يجبر على البيع ، وإن لم يبذل له ثمن الصبغ ففيه وجهان ذكرهما أبو علي الطبري في " إفصاحه " :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه يجبر رب الثوب على بيعه ليتوصل الغاصب إلى ثمن صبغه كما يجبر الغاصب عليه ليتوصل رب الثوب إلى ثمن ثوبه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن لا يجبر رب الثوب على بيعه ؛ لأن الغاصب متعد بصبغه فلم يستحق بتعديه إزالة ملك رب الثوب عن ثوبه . فهذا الكلام في الصبغ إذا لم يمكن استخراجه ، ولا فرق بين أن يكون سوادا وبين أن يكون غيره من الألوان .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : إن كان الصبغ سوادا فلا شيء للغاصب فيه وكان رب الثوب مخيرا بين أن يأخذه ، ولا شيء عليه للصبغ وبين أن يعطيه للغاصب ويأخذ منه قيمته . وإن كان [ ص: 182 ] الصبغ حمرة ، أو صفرة فهو مخير بين أن يأخذه وعليه قيمة الصبغ وبين أن يعطيه للغاصب . ويأخذ منه قيمة الثوب فجعل له في الأصباغ كلها أن يأخذ من الغاصب قيمة ثوبه إن شاء فله أن يأخذه مصبوغا إن شاء لكن إن كان الصبغ سوادا فلا قيمة عليه له وإن كان لونا غيره فعليه قيمته واختلف أصحابه لم خص السواد بإسقاط القيمة ؟ فقال بعضهم : لما فيه من إتلاف أجزاء الثوب . وقال آخرون : بل قاله في آخر الدولة الأموية حين كان السواد نقصا ولونا مذموما فأما بعد أن صار شعار الدولة العباسية وزيادة في الثوب على غيره من الألوان فلا ، وهذا قول ضعيف وتعليل لا يختص بالسواد ؛ لأن من الألوان ما قد يكون نقصا تارة وتارة أخرى زيادة ، فاقتضى أن يكون التعليل عاما في اعتبار النقص وزيادته ، ولا يكون مختصا بالسواد دون غيره . فأما تمليك الغاصب الثوب بأخذ القيمة منه فخطأ ؛ لأن بقاء العين المغصوبة يمنع من أخذ قيمتها من الغاصب قياسا عليه لو كان غير مصبوغ ولأن من لم يجب عليه قيمة الثوب قبل صبغه لم تجب عليه قيمته بعد صبغه كالآجر ، ولأن الصبغ لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون نقصا ، أو غير نقص فإن كان نقصا ضمنه لا غير كالمتميز وإن لم يكن نقصا فأولى أن لا يضمن ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية