الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا صح أن الطلاق لا يقع إلا بالقول . فالألفاظ فيه تنقسم ثلاثة أقسام : قسم يكون صريحا فيه ، والصريح ما وقعت به الفرقة من غير نية ، وقسم يكون كناية فيه . والكناية ما وقعت به الفرقة مع النية ولم تقع به من غير نية ، وقسم لا يكون صريحا فيه ولا كناية : وهو ما لا يقع به الفرقة سواء كانت معه نية أو لم تكن .

                                                                                                                                            فأما صريح الطلاق فهو على مذهب الشافعي ثلاثة ألفاظ : الطلاق والفراق والسراح وقال أبو حنيفة : صريح الطلاق لفظة واحدة وهي الطلاق دون الفراق والسراح استدلالا بأن كل لفظ تعارف الناس استعماله في الطلاق وغير الطلاق ، لم يكن صريحا [ ص: 151 ] في الطلاق ، قياسا على قوله أنت علي حرام ، وقد تعارف الناس استعمال الفراق والسراح في غير الطلاق ، فلم يكن صريحا في الطلاق .

                                                                                                                                            ودليلنا هو : أن كل لفظ ورد به القرآن قصد الفرقة بين الأزواج كان صريحا فيها كالطلاق ، وقد ورد القرآن بهذه الألفاظ الثلاثة . أما الطلاق فبقوله : الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] . وبقوله : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق : 1 ] . وغير ذلك .

                                                                                                                                            وأما السراح فبقوله تعالى : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقال فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا [ الأحزاب : 28 ] . وأما الفراق فبقوله : فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف [ الطلاق : 2 ] اعترضوا على هذه الدلالة ، وهي دلالة الشافعي بخمسة أسئلة :

                                                                                                                                            أحدها : أن قالوا : هذا منتقض بالفدية ، قد ورد بها القرآن في الفرقة بقوله : فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ البقرة : 229 ] . وليس بصريح في الطلاق فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الفدية لفظ صريح في حكمه أنه فسخ أو طلاق على أحد القولين .

                                                                                                                                            والثاني : أن مقصود الفدية استباحة مالها به ، بعد أن كان محظورا قبله بقوله : وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا [ النساء : 20 ] . فنسخ بقوله : فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ البقرة : 229 ] .

                                                                                                                                            والسؤال الثاني : أن قالوا : الكناية قد ورد بها القرآن في العتق بقوله : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا [ النور : 33 ] . والفك قد ورد به القرآن في العتق بقوله : وما أدراك ما العقبة فك رقبة [ البلد : 12 ، 13 ] . وليس الكناية والفك من صريح العتق وكذلك السراح والفراق جاز وإن ورد بهما القرآن أو لا يكون من صريح الطلاق ، فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : ليس يلزم إذا كان ما ورد به القرآن في الطلاق صريحا ، أن يكون ما ورد به القرآن في الطلاق صريحا ولا يكون افتراقهما فيه مانعا من أن يختص كل واحد منهما بحكمه .

                                                                                                                                            والثاني : أن الكناية المراد بها العقد المكتوب بين السيد وعبده دون العتق وهي صريح فيه ، وأما فك الرقبة ، فلنزول ذلك سبب ، وهو أن أبا الأشد ابن المحيي كان ذا قوة يدل بها فأنزل الله تعالى فيه : أيحسب أن لن يقدر عليه أحد إلى قوله : فلا اقتحم العقبة [ البلد : 11 ] . أي أنه وإن دل بقوته فليس يقدر على اقتحام العقبة ، إلا [ ص: 152 ] بفك رقبة ، فخرج مخرج الخبر عن صفة مقتحمها ، ولم يخرج مخرج الأمر فيصير بذلك معتقا لها .

                                                                                                                                            والسؤال الثالث : أن السراح لو كان صريحا كالطلاق ، لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول قوله تعالى : الطلاق مرتان عن الثالثة حتى بين فقال : أو تسريح بإحسان ولكان السائل يعلم أنه صريح فيستغني عن السؤال .

                                                                                                                                            فالجواب عنه : أن صريح الطلاق وكنايته من الأحكام الشرعية التي تخفى عن أهل اللغة فسأله ليعلم صريح الشرع دون اللغة ، وذلك مما لا يستغني عنه أحد .

                                                                                                                                            والسؤال الرابع : أن الطلاق إنما كان صريحا ، لأن القرآن ورد به ، ولكن لأنه لا يستعمل في غير الفرقة ، لذلك صار صريحا ، والفراق والسراح قد يستعملان في غير الفرقة فكانا كناية .

                                                                                                                                            قيل : قد يستعمل الطلاق في غير الفرقة ، فيقال : فلان قد طلق الدنيا ، إذا زهد فيها وطلقت فلانا من وثاقه ، وقد داعب الشافعي بعض إخوانه فقال .


                                                                                                                                            اذهب حصين فإن ودك طالق مني وليس طلاق ذات البين

                                                                                                                                            فما أنكر ذلك أحد من أهل اللغة ، فلما لم يمنع من استعمال الطلاق في غيره أن يكون صريحا فيه ، كذلك الفراق والسراح .

                                                                                                                                            والسؤال الخامس : أن الطلاق كان صريحا لكثرة استعماله ، والفراق والسراح يقل استعمالهما فكانا كناية ، قيل : الصريح حكم شرعي فاقتضى أن يراعى فيه عرف الشرع لا عرف الاستعمال ، وهما في عرف الشرع كالطلاق ، وإن خالفاه في عرف الاستعمال . وقياس ثان : وهو أن إزالة الملك إذا سرى لم يقف صريحه على لفظ واحد كالعتق . وقياس ثالث : وهو أن الطلاق أحد طرفي النكاح ، فوجب أن يزيد صريحه على لفظه واحدة كالعقد ، وقياس رابع : وهو أن كل لفظ لا يفتقر في الطلاق عند الغضب والطلب إلى نية الطلاق كان صريحا فيه كالطلاق ، وقياس خامس : أنه أحد نوعي الطلاق فلم يقف على لفظة واحدة ، كالكناية لأن الطلاق صريح وكناية .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قياسهم فقد مضى في أجوبة الأسئلة ثم المعنى في الأصل أنه لم يرد به القرآن والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية