الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال المزني : " وقد قال لو قال لها إن أعطيتني شاة ميتة أو خنزيرا أو زق خمر فأنت طالق ففعلت طلقت ويرجع عليها بمهر مثلها " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح إذا قال لها : إن أعطيتني خمرا أو خنزيرا أو شاة ميتة فأنت طالق ، فأعطته ذلك ، طلقت ، وإن لم تملك الخمر والخنزير لوجود الصفة بدفعه ، فإن قيل : أفليس لو قال لها : إن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق ، فأعطته إياه ، وهو مغصوب لم تطلق ، وإن كانت الصفة موجودة ، لأنه لا يصح أن يملكه عنها فهلا كان في الخمر والخنزير لا تطلق بدفعه ، وإن كانت الصفة موجودة ، لأنه لا يملك عنها .

                                                                                                                                            قيل : الفرق بينهما أن العبد مال يجوز أن يملك فصار التمليك فيه مقصودا ، فجاز أن يصير في الحكم مشروطا ، وإن منع الشرع من تملكه بالجهالة ، وليس كذلك الخمر والخنزير ، لأنه ليس بمال فلم يصر التملك فيه مقصودا ، فقوي فيه حكم الطلاق بالصفة ، فإذا ثبت وقوع الطلاق بدفعه وقع بائنا ، وله عليها مهر مثلها .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يقع رجعيا ، ولا شيء له عليها استدلالا بأن الخمر ليس بعوض فصار مطلقا لها بغير عوض ، والطلاق بغير عوض يكون رجعيا ، فكذلك بما لا يجوز أن يكون عوضا .

                                                                                                                                            ولأن خروج البضع من ملك الزوج غير مقوم ولا يكون استهلاكا لمال يستحق قيمته لثلاثة أمور :

                                                                                                                                            أحدها : جواز طلاقه في المرض الذي يمنع فيه من استهلاك ماله ، ولا تكون قيمة البضع معتبرة من ثلاثة كالعطايا ، والهبات .

                                                                                                                                            والثاني : أنها لو قتلت نفسا فاستهلكت على الزوج بضعها لم يستحق الزوج عليها قيمته ، ولو كان مالا لوجب له عليها مهر المثل .

                                                                                                                                            والثالث : أنه لا يجوز لأب الصغيرة أن يخالع عنها بمالها ، ولو كان البضع مالا لجاز أن يتملكه لها بمالها كما يجوز أن يشتري لها عقارا .

                                                                                                                                            ودليلنا هو أنه خلع على عوض فاسد فاقتضى وقوع الطلاق فيه أن يوجب الرجوع ببدل البضع .

                                                                                                                                            أصله إذا خالعها على عصير فوجده خمرا . [ ص: 64 ] قال أبو حنيفة : يرجع عليها بالمهر الذي دفعه إليها في النكاح .

                                                                                                                                            فإن قيل : فالمعنى في الأصل أن الزوج لم يرض بخروج البضع من ملكه بغير بدل ، لأنه ظنه عصيرا ، فجاز أن يستحق فيه البدل وفي الفرع قد علمه خمرا فرضي بخروج البضع بغير بدل فلم يستحق فيه البدل .

                                                                                                                                            فالجواب : أنه منتقض بالنكاح فإنها إذا تزوجت برجل على خمر كان لها مهر المثل ، وإن علمت أنه خمر كما لو تزوجته على عصير فكان خمرا لا فرق بينهما فكذلك في الخلع .

                                                                                                                                            وتحريره قياسا فنقول : لأنه بضع ملك بخمر لا يملك فوجب الرجوع إلى مهر المثل كالنكاح .

                                                                                                                                            فإن قيل البضع مقوم في حق الزوجة وغير مقوم في حق الزوج لأنها لو وطئت بشبهة لكان مهر المثل لها دون الزوج .

                                                                                                                                            قيل لأن هذا الوطء ما حرمها عليه فلم يصر البضع مستهلكا عليه فلذلك لم يضمن في حقه ولو حرمها عليه وطئها أبوه أو ابنه كان له الرجوع بمهر المثل ، لأنه صار مستهلكا عليه ولك تحرير هذا قياسا ثالثا فنقول : ما تقوم في انتقاله إليه ببدل تقوم في انتقاله عنه بذلك البدل كالمثمنات يستوي في استحقاقه المسمى في الجهتين إذا صح وفي القيمة إذا فسد .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلاله بأن خلعها بالخمر الذي لا يكون عوضا رضي منه بخلعها على غير عوض ، فهو أنه قد يملك العوض الفاسد كما يملك الخمر فلما وجب له في العوض الفاسد مهر المثل مع علمه وجهله وجب له في الخمر مهر المثل مع علمه وجهله .

                                                                                                                                            وأما استدلاله بأن البضع لا يقوم في حق الزوج لإمضاء طلاقه في المرض ففاسد بتقويمه في حقه إذا خالع على عوض فاسد ، وإن ما لم يقوم في حقوق الورثة إذا طلق في المرض وإن قوم عتقه وهباته لأنهم لا يرثون الزوجة لو لم يطلقها ويرثون الأعيان التي وهبها وأعتقها .

                                                                                                                                            وأما استدلاله بأنها لو قتلت نفسا لم يرجع عليها بمهر مثلها .

                                                                                                                                            فالجواب عنه أن الأطراف تدخل في حكم النفس ، لأن من قطع يد رجل ثم قتله دخلت دية يده في دية نفسه ، والبضع كالطرف فإذا اقترن به تلف النفس دخل في حكمه ، وهو لاحق به في دية النفس فلذلك لم يكن له حق في قيمة البضع ، ولأن المنافع مقومة [ ص: 65 ] في حق المستأجر ، ولو استأجر عبدا فقتل ضمن القاتل قيمته لسيده ، ولم يضمن منفعته لمستأجره ، وإن كانت المنافع مقومة في حقه كذلك في قيمة البضع .

                                                                                                                                            وأما استدلاله بأن الأب لا يخالع عن بنته الصغيرة فلأنه قد كان يقدر أن يتملك لها بالمال من العقار ما هو أنفع لها ، ولأنه بالخلع وإن ملكها بعضها فقد أسقط به نفقتها فلذلك يمنع .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية