الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو قال قد راجعتك قبل انقضاء عدتك وقالت بعد فالقول قولها مع يمينها " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما إذا اختلفا في الرجعة والعدة باقية فقال الزوج : راجعتك ، وقالت : لم تراجعني فالقول فيها قول الزوج ، لأنها حال تملك فيها الرجعة فملك الإقرار فيها بالرجعة كالطلاق ، وإذا ملكه الزوج ملك الإقرار به ، ثم ينظر فإن لم يتعلق بها قبل الرجعة حق على الزوج ، فلا يمين عليه ، لأن الرجعة لما جازت له بغير علمها صار مؤتمنا عليها ، فإذا لم يتعلق بها حق لغيره لم يلزمه إحلافه عليها ، وإن تعلق عليه [ ص: 320 ] حق الزوجة قبل إقراره بالرجعة ، لأنه وطئها قبل إقراره بها فطالبته بمهر المثل ، لأجل وطئه فأنكر وجوب المهر بما أقر من الرجعة قبل وطئه أحلف على رجعته ولم يسقط دعواها بإنكاره .

                                                                                                                                            فأما إذا اختلفا في الرجعة بعد انقضاء العدة ، فقال الزوج : راجعتك قبل انقضاء العدة ، فلا يخلو إنكارها له من أحد أمرين : إما أن تجحده الرجعة ، وإما أن تقر بها وتدعي انقضاء العدة قبلها ، فإن جحدت أن يكون قد راجعها قبل هذه الدعوى فالقول قولها مع يمينها ، لأنها قد ملكت نفسها في الظاهر بالطلاق المتقدم فلم يقبل دعوى الزوج فيما يخالفه مع بقاء عصمته ، وإن اعترفت له بالرجعة إلا أنها أنكرت أن تكون في العدة ، وادعت انقضاء عدتها قبل الرجعة فالذي نقله المزني هاهنا أن القول قول الزوجة مع يمينها ولا رجعة ، ونقل المزني في نكاح المشركين إذا أسلم الزوج بعد تقدم إسلام الزوجة ، ثم اختلفا فقال : أسلمت قبل انقضاء عدتك فنحن على النكاح ، وقالت الزوجة : بل أسلمت بعد انقضاء عدتي فلا نكاح بيننا إن القول قول الزوج مع يمينه في تقدم إسلامه ، وهما على النكاح وقد حكاه بعض أصحابنا عن الشافعي في اختلافهما في الرجعة أن القول فيها قول الزوج مع يمينه فاختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : وهو قول متقدم أنها على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو الأصح أن القول قولها دونه ، لأن إقامة البينة على انقضاء العدة متعذر وإقامتها على الرجعة ممكنة ، فلذلك غلب قولها في انقضاء العدة على قوله في تقدم الرجعة لتعذر البينة من جهتها وإمكانها من جهته .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن القول قوله في تقدم الرجعة دونها ، لأن الرجعة من فعله وصادرة عن اختياره ، وليس انقضاء العدة من فعلها ولا صادرة عن اختيارها فكان قوله فيها أمضى ودعواه فيها أقوى .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي العباس بن سريج وأبي إسحاق المروزي أنه ليس على قولين بل القول فيه قول من سبق بالدعوى فإن سبقت الزوجة بأن عدتها قد انقضت واستقر قولها في البينونة ثم جاء الزوج يدعي تقدم الرجعة فالقول قولها مع يمينها بالله أنها لا تعلم تقدم الرجعة ، فيكون يمينها على نفي العلم ، لأنها على نفي فعل الغير ، وإن سبق دعوى الزوج بأنه قد راجع زوجته في العدة واستقر قوله في الرجعة ثم جاءت الزوجة فادعت انقضاء عدتها قبل الرجعة كان القول قوله مع يمينه بالله أنه لا يعلم انقضاء عدتها قبل رجعته وإنما كان كذلك لاستقرار الحكم فيما سبقت [ ص: 321 ] به الدعوى ، فلم تبطل بما حدث بعده من الدعوى كاختلاف الوكيل والموكل بعد بيع الوكيل هل كان بيعه قبل فسخ الوكالة فيصح ، أو بعد فسخها فيبطل ، فإنه معتبر بأسبقهما قولا ، فإن بدأ الوكيل فقال : قد بعت السلعة بوكالتك ، وقال الموكل قد فسخت وكالتك قبل بيعك أن القول قوله ، لأن الوكيل قد كان في حال الوكالة فصار مقبولا على موكله ، وإن سبق الموكل فقال : فسخت وكالتك ، فقال الوكيل : قد بعت قبل فسخك ، فالقول قول الموكل ، لأن الوكيل قد خرج من الوكالة بفسخه ، فلم يقبل قوله بعد فسخ وكالته كذلك حكم اختلافهما في تقدم الرجعة وانقضاء العدة يكون معتبرا بأسبقهما قولا إذا استقر قوله من غير أن يتصل بإنكار ، فإن اتصل بإنكار لم يستقر معه حكم السبق ، إما بأن تبدأ الزوجة فتقول : قد انقضت عدتي ، فيقول الزوج جوابا لها : قد راجعتك قبل انقضاء عدتك ، أو يبدأ الزوج فيقول : قد راجعتك في عدتك ، فتقول الزوجة جوابا له : قد انقضت عدتي قبل رجعتك ، فيكونا في حكم الدعوى سواء ، ولا يقوى قول من سبق منهما بالدعوى إذا أجيبت بالإنكار ، لأن حكم قوله لم يستقر ، وإذا كان كذلك صارا فيها متساويين فالقول حينئذ على هذا الوجه قول الزوجة دون الزوج لمعنيين يرجع بهما قولهما أنها جارية في فسخ وأن قولها في حيضها مقبول .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : وقد أشار إليه المزني واختاره الداركي أنهما إن اتفقا في وقت انقضاء العدة واختلفا في وقت الرجعة كأنه قال : راجعتك في شعبان ، وانقضت عدتك في رمضان ، وقالت : انقضت عدتي في رمضان وراجعتني في شوال ، فالقول قول الزوج مع يمينه ، لأن اختلافهما في الرجعة دون العدة ، والرجعة من فعله دونها فوجب أن يكون القول فيها قوله مع يمينه على ما تقدم رجعته لا على تأخير عدتها ، لأنه يحلف على ما اختلفا فيه ، وهي الرجعة دون العدة ، فيقول والله لقد راجعتك قبل انقضاء عدتك ، فتكون يمينه على القطع ، لأنها يمين إثبات .

                                                                                                                                            وإن اتفقا على وقت الرجعة ، واختلفا في وقت انقضاء العدة ، وكأنها قالت : انقضت عدتي في شعبان وراجعتني في رمضان ، فقال الزوج : راجعتك في رمضان وانقضت عدتك في شوال ، فالقول قول الزوجة مع يمينها ، لأنه حلف في انقضاء العدة لا في وقت الرجعة ، فكان القول قولها ، لأنها مؤتمنة على عدتها فيحلف بالله لقد انقضت عدتها قبل رجعتك على القطع ، لأنها يمين إثبات والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية