الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 286 ] باب ما يهدم الرجل من الطلاق من كتابين

                                                                                                                                            قال الشافعي رحمه الله : " لما كانت الطلقة الثالثة توجب التحريم كانت إصابة زوج غيره توجب التحليل ولما لم يكن في الطلقة ولا في الطلقتين ما يوجب التحريم لم يكن لإصابة زوج غيره معنى يوجب التحليل فنكاحه وتركه سواء ورجع محمد بن الحسن إلى هذا واحتج الشافعي رحمه الله بعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا سأله عمن طلق امرأته اثنتين فانقضت عدتها فتزوجت غيره فطلقها أو مات عنها وتزوجها الأول قال عمر هي عنده على ما بقي من الطلاق " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وجملة ذلك أن الفرقة الواقعة بالطلاق تنقسم ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : وهو أخفها : ما يستبيحه المطلق بالرجعة من غير عقد ، وهو ما دون الثلاث في المدخول بها فيستبيحها الزوج بأن يراجعها في العدة .

                                                                                                                                            والقسم الثاني وهو أغلظهما : أن لا يستبيحها المطلق إلا بعد زوج ، وهو الطلاق الثلاث في المدخول بها وغير المدخول بها ، فهي محرمة عليه بالثلاث ، حتى تنكح زوجا غيره .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : وهو أوسطها أن يستبيحها بعد نكاح بعد طلاقه ، ولا يستبيحها بالرجعة ، ولا يفتقر إلى نكاح زوج ، وهو ما دون الثلاث من طلقة أو طلقتين إما في غير مدخول بها وإما في مدخول بها بعد انقضاء عدتها ، وإما في مختلعه ، فإن نكحها قبل زوج أو بعد زوج لم يصبها حتى طلقها ، فإذا تزوجها الأول كانت معه على ما بقي من الطلاق إجماعا ، وإن كان الأول واحدة بقيت معه على اثنتين ، وإن كان اثنتين بقيت معه على واحدة ، وإن نكحت زوجا وأصابها ثم طلقها وعاد الأول بعد عدتها من الثاني وتزوجها ، فقد اختلف الفقهاء فيه ، فذهب الشافعي إلى أن وجود الزوج الثاني كعدمه ، وأنه لا يرفع ما تقدم من طلاق الأول ، وإذا نكحها الأول بعده كانت معه على ما بقي من الطلاق ، فإن كان الطلاق واحدة بقيت معه على اثنتين ، وإن كان اثنتين بقيت على واحدة ، فإن طلقها في النكاح الثاني واحدة حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره .

                                                                                                                                            [ ص: 287 ] وبه قال من الصحابة : عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبو هريرة .

                                                                                                                                            ومن الفقهاء : مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن ، وقال أبو حنيفة ويوسف : الزوج الثاني قد هدم طلاق الأول ورفعه ، فإذا عادت إلى الأول كانت معه على ثلاث تطليقات ، استدلالا بقول الله تعالى : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [ البقرة : 299 ] . فاقتضى ظاهر الآية جواز الرجعة إذا طلقها في النكاح الثاني ، واحدة بعد اثنتين في النكاح الأول ، وأنتم تمنعون منها وتحرمونها إلا بعد زوج ، قالوا : ولأنها إصابة زوج ثان فوجب أن تهدم ما تقدم من طلاق الأول ، أصله إذا كان طلاق الأول ثلاثا ، قال : ولأن إصابة الثاني لما قويت على هدم الطلاق الثلاث ، كانت على هدم ما دونها أقوى ، كمن قوي على حمل مائة رطل كان على حمل رطل أقوى ، وكالماء إذا رفع كثير النجاسة كان برفع قليلها أولى ، وكالغسل إذا رفع الجنابة ، كان برفع الحدث أولى ، وكالجنابة إذا نقضت طهر البدن ، كانت بنقض طهارة بعضه أولى .

                                                                                                                                            ودليلنا قول الله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] . فكان طلاق من بقيت له من الثلاث طلقة لا يوجب تحريمها إلا بعد زوج ، سواء نكحت قبل طلاقه زوجا أم لا ، فإن قيل : فإن كان آخر الآية دليلا لكم ، كان أولها على ما مضى دليلا لنا ، قيل : إذا اجتمع في الآية الواحدة ما يوجب الحظر والإباحة ، كان تغليب ما يوجب الحظر على الإباحة أولى .

                                                                                                                                            ومن القياس أنها إصابة لم تكن شرطا في الإباحة فلم تهدم ما تقدم الطلاق كإصابة السيد والإصابة بشبهة ولأنه طلقها قبل استكمال عدد الطلاق ، فوجب أن يبني على ما تقدم من الطلاق ، وأصله إذا لم يدخل بها الثاني ، ولأن الاستباحة الواقعة بعد الفرقة المستبيحة عن نكاح زوج ، لا تردها إلى أول العدة كالرجعة ، لأنها طلقة استكمل بها عدد الثلاث ، فوجب تحريمها إلا بعد زوج .

                                                                                                                                            أصله : إذا استكمل الثلاث في الابتداء ، ولأن إصابة الزوج الثاني في الطلاق الثلاث لا يهدمه ، وإنما يرفع تحريمه لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الطلاق قد وقع فلم يرتفع بعد وقوعه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو ارتفع لاستباحها بغير عقد ، وإذا أثرت في رفع التحريم في الثلاث وليس فيما دون الثلاث تحريم لم يكن للإصابة فيها تأثير .

                                                                                                                                            ولأننا أجمعنا على أن النكاح الثاني يبنى على الأول في الإيلاء والظهار ، قبل زوج وبعده فكذلك في عدد الطلاق .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن الآية فقد مضى . [ ص: 288 ] وأما الجواب عن قياسهم على الثلاث ، فهو أنه لما كانت الإصابة شرطا فيه كانت رافعة له ، وليست شرطا فيما دونها فلم يرفعه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن ما قوي على رفع الأكثر كان على رفع الأقل أقوى ، فهو أن الإصابة عندنا لا ترفع الثلاث على ما ذكرنا وإنما ترفع تحريمها ، وليس فيما دون الثلاث تحريم ، على أن هذا الأصل غير مستمر على مذهب أبي حنيفة لأن جعله قد يجعل الشيء مؤثرا في الأكثر غير مؤثر في الأقل في مواضع شتى . فمنها أن العاقلة تتحمل جميع الدية ولا تتحمل ما دون الموضحة . ومنها أنه لو قال لزوجته : أنت بائن ينوي بها الثلاث ، كانت ثلاثا ولو نوى اثنتين كانت واحدة ، فجعل النية مؤثرة في الثلاث غير مؤثرة في الأقل . ومنها أن القهقهة في الصلاة تبطل الصلاة والطهارة ، وفي غير الصلاة لا تبطل الطهارة ، فجعلها مؤثرة في الأكثر غير مؤثرة في الأقل ، ففسد به ما ذهب إليه . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية