الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وإذا كانت زوجته أمة فاشتراها بطل النكاح بالشراء فإن أعتقها عن كفارته لم يخل حالها من أحد أمرين : إما أن يظهر بها حمل أو لا يظهر بها ، فإن لم يظهر بها أجزأه عتقها عن كفارته لأنها كسائر رقيقه ، وإن ظهر بها حمل لم يخل أن يكون قد وطئها بعد الشراء أو لم يطأ ، فإن لم يطأ بعد الشراء نظر ؛ فإن وضعته لأقل من أربع سنين من وقت الشراء ألحق به الولد وعتق عليه بالملك، وأجزأه عتق الأم لأنها علقت به من عقد نكاح فلم تصر به أم ولد . وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من وقت الشراء لم يلحق به، وأجزأه عتق الأم عن كفارته وعتق الولد بعتق أمه وهو حمل . وإن كان قد وطئها بعد الشراء فلا يخلو حال وضعه من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن تضعه لأقل من أربع سنين من وقت الشراء ولأقل من ستة أشهر من وقت الوطء، فيكون لاحقا به من عقد نكاح لا تصير به أم ولد فيجزئه عتق الأم عن كفارته ويعتق الولد بالملك .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن تضعه لأكثر من أربع سنين من وقت الشراء ولأقل من ستة أشهر من وقت الوطء فلا يلحق به ويجزيه عتق الأم عن كفارته، ويعتق الولد تبعا لأمه .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن تضعه لستة أشهر فصاعدا بعد وطئه فيلحق به عن وطء في ملكه فلا يجزيه عتق الأم لأنها قد صارت به أم ولد ويكون الولد مخلوقا حرا . [ ص: 478 ] مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو أعتق عبدا بينه وبين آخر عن ظهاره وهو موسر أجزأ عنه من قبل أنه لم يكن لشريكه أن يعتق، ولا يرد عتقه وإن كان معسرا عتق نصفه، فإن أفاد واشترى النصف الثاني وأعتقه أجزأه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح إذا أعتق المكفر عبدا بينه وبين شريكه ناويا به عن كفارته لم يخل من أن يكون موسرا أو معسرا فإن كان موسرا بقيمة حصة شريكه عتق عليه جميعه، أما نصيبه منه فيعتق عليه باللفظ، وأما نصيب شريكه فعلى ثلاثة أقاويل :

                                                                                                                                            أحدها : يعتق باللفظ أيضا .

                                                                                                                                            والقول الثاني : باللفظ ودفع القيمة معا .

                                                                                                                                            والثالث : أنه موقوف مراعى، فإن دفع القيمة بان عتقه باللفظ، وإن لم يدفع القيمة لم يعتق، ولتوجيه هذه الأقاويل موضع .

                                                                                                                                            فإذا تقررت هذه الأقاويل الثلاثة تفرع حكم العتق والإجزاء عليها ، فإذا قلنا : إن العتق في نصيب الشريك واقع باللفظ، أو قلنا إنه موقوف على دفع القيمة، فدفعها وعتق باللفظ، فقد اختلف أصحابنا في عتق نصيب الشريك الواقع باللفظ هل هو عتق مباشرة أو عتق سراية على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه عتق مباشرة ؛ لأنه لما كان نصيب نفسه يعتق بالمباشرة لوقوعه باللفظ .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه عتق بالسراية ؛ لأنه تابع لنصيبه فاقتضى أن يتأخر عنه ليكون المتبوع متقدما .

                                                                                                                                            فإذا صح هذان الوجهان نظر ؛ فإن نوى عتق جميعه عن كفارته عند لفظه بعتقه أجزأه عتقه عن كفارته ؛ لأن الشرع مستقر على أن المعتق لحصته من غير مشترك كالمعتق لجميعه إذا كان موسرا ، وإن نوى عتق حصته عن كفارته ولم يكن له نية في حصة شريكه فقد أجزأه عتق نصيبه عن كفارته لوجود نيته مع التلفظ بعتقه، وفي إجزاء ما عتق عليه من حصة شريكه وجهان من اختلاف الوجهين هل يعتق بالمباشرة أو بالسراية ، فإن قيل يعتق بالمباشرة أجزأته نيته في حصته عن النية في حصة شريكه .

                                                                                                                                            وإن قيل يعتق بالسراية لم يجزه، وكذلك لو كان مالكا لجميع العبد فأعتق نصفه ينوي بنصفه عن كفارته عتق عليه جميعه وأجزأه منه النصف الذي نواه وفي إجزاء نصفه الباقي وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجزئ ويكون عتق مباشرة .

                                                                                                                                            [ ص: 479 ] والثاني : لا يجزئ ويكون عتق سراية .

                                                                                                                                            فصل : إذا قلنا بالقول الثالث : أنه لا يعتق إلا باللفظ ودفع القيمة فإذا دفع القيمة عتق، وكان عتقا بالسراية باتفاق أصحابنا، وتعتق حصته بالمباشرة ، فأما نية التكفير فمعتبرة في حصته مع التلفظ بعتقه وفي اعتبارها في حصة شريكه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : مع دفع القيمة : لأنه وقت نفوذ العتق .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وقت اللفظ ليقترن بسبب العتق ولا يتقدم عليه فلا يجزئ كما لا يجزئ عتق الوالد لتقدم سببه على نيته .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : أنه مخير بين أن ينوي مع اللفظ لأنه سبب العتق وبين أن ينوي مع دفع القيمة لأنه وقت نفوذ العتق . وأرى وجها رابعا هو الأصح عندي أن يجمع بين النية مع لفظ العتق والنية مع دفع القيمة : لأن العتق إذا وقع بسببين لم يجز أن تختص النية بأحدهما فإن نوى عند أحدهما لم يجزه .

                                                                                                                                            فصل : وإن كان المعتق معسرا عتق نصيبه منه ولم يعتق نصيب شريكه، وأجزاه عتق النصف الذي ملكه، وكان الباقي منه على رقه، فإن بقي على إعساره وأراد أن يتم التكفير بالصيام أو الإطعام لم يجز إذا أعتق نصف عبد أن يصوم شهرا أو يطعم ثلاثين مسكينا ؛ ليكون نصف التكفير بالعتق ونصفه بالصيام أو الإطعام ؛ لأن الكفارة لا تتبعض في جنسين ، وقيل : عليك أن تكمل التكفير بالصيام أو الإطعام، فتصوم شهرين أو تطعم ستين مسكينا ، فعلى هذا يكون في نصف العتق الذي قدمه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه عتق نافد في التكفير وكمله بصوم شهرين لئلا يتبعض الصيام .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه يصير تطوعا ويكون التكفير بصوم الشهرين لأن الصوم كفارة كاملة، وليس يلزم أن يزيد عليها فصار ما تقدمها تطوعا ، وإن أيسر بعد إعساره فهل يلزمه أن يكفر بالعتق أم لا على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يلزم أن يكفر بالعتق إذا قيل أن المراعى بالكفارة حال الوجوب، فعلى هذا يكون على ما مضى .

                                                                                                                                            والقول الثاني : يلزمه أن يكفر بالعتق إذا قيل أن المراعى بالكفارة حال الأداء، فعلى هذا إن اشترى نصفه الذي أعتق نصفه لم يعتق عليه بالشراء لاستقرار رقه بعد ما عتق منه وخالف حال يساره وقت عتقه، فإذا أعتقه عن كفارته أجزأه، وقد تكمل له عتق عبد عن كفارته فأجزأه، وإن فرق العتق، كما يجزئ تفريق الطعام . وإن اشترى نصف عبد آخر فأعتقه حتى يكمل عتق رقبة من عبدين ففي إجزائه وجهان : [ ص: 480 ] أحدهما : يجزئ لكمال العتق المستحق وإن تبعض .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يجزئ : لأن في التبعيض نقصا، وعتق الناقص غير مجزئ وفيه وجه ثالث : أنه إذا أعتق نصفين من عبدين باقيهما حر أجزأه لارتفاع الضرر عنهما وإن كان باقيهما مملوكا لم يجزه لدخول الضرر عليهما . والله أعلم .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو أعتقه على أن جعل له رجل عشرة دنانير لم يجزئه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها : في رجل عليه عتق رقبة عن ظهار، وله عبد فقال له رجل : أعتق عبدك هذا عن ظهارك على أن لك علي عشرة دنانير . فلا يخلو حاله إذا أعتق عبده عن ظهاره من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يقول قد أعتقت عبدي عن ظهاري على عشرة دنانير لي عليك فيعتق عليه، ولا يكون عن ظهاره ؛ لأن عتق الظهار يجب أن يكون خالصا عنه، ولا يكون مشتركا بين الظهار وبين غيره، وهذا عتق قد جعله مشتركا بين الظهار وبين أخذ العوض عنه فلم يخلص عن الظهار، فلذلك لم يجزه عن الظهار، وإذا لم يجزه عن الظهار صار العتق واقعا عن باذل العوض وعليه العشرة ؛ لأن المعتق صرف العتق إلى شيئين إلى الظهار وإلى العوض فإذا بطل أن يكون عن الظهار ثبت حكم الآخر وهو العوض فصار معتقا عبد نفسه بعوض على غيره فوقع العتق عن باذل العوض، ويكون له الولاء وعليه ما بذله من العوض، وهو العشرة، قاله الشافعي في كتاب الأم .

                                                                                                                                            فصل : والحال الثانية : أن يقول المعتق : قد أعتقت عبدي هذا عن ظهاري دون عوضك ، فيعتق عن ظهاره لأنه قد جعله خالصا عنه، ولا شيء له على باذل العوض ؛ لأنه قد رده ؛ لأن العتق لم يحصل له .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يقول المعتق : قد أعتقت عبدي هذا عن ظهاري ويمسك عن ذكر العوض ، فلا يصرح بإثباته ولا بنفيه فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يعتق بعد تطاول الزمان وخروجه عن أن يكون جوابا للباذل للبذل ، فيجزيه عتقه عن ظهاره لا يختلف لعلتين :

                                                                                                                                            إحداهما : إمساكه عن ذكر العوض في عتقه .

                                                                                                                                            والثانية : خروجه عن حكم الجواب لبعده .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يعتقه في الحال عقيب البذل ففيه وجهان :

                                                                                                                                            [ ص: 481 ] أحدهما : يجزيه عن ظهاره تعليلا بإمساكه عن ذكر العوض، ولا شيء له على الباذل .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يجزيه عن ظهاره، ويكون عن الباذل وعليه ما بذل ؛ تعليلا بأن قرب الزمان يخرجه مخرج الجواب فصار الحكم مصروفا إليه، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية