الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما أبو حنيفة فاستدل على استحقاق المطالبة بالفيئة في المدة ووقوع الطلاق بانقضائها بقوله تعالى : للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر الآية إلى قوله : فإن الله سميع عليم [ البقرة : 226 ، 227 ] .

                                                                                                                                            قال وفيها ثلاث أدلة :

                                                                                                                                            أحدها : أن عبد الله بن مسعود قرأ فإن فاءوا فيهن فإن الله غفور رحيم [ البقرة : 226 ] .

                                                                                                                                            [ ص: 341 ] فأضاف الفيئة إلى المدة فدل على استحقاق الفيئة فيها ، وهذه القراءة وإن تفرد ابن مسعود بها تجري مجرى خبر الواحد في وجوب العمل به .

                                                                                                                                            والدليل الثاني منها : أن الله تعالى جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر فلو كانت الفيئة بعدها لزادت على مدة النص وذلك لا يجوز .

                                                                                                                                            والدليل الثالث منها : أنه لو وطئها في مدة الإيلاء وقعت الفيئة موقعها فدل على استحقاق الفيئة فيها قال : ولأنها مدة شرعية ثبتت بالقول فيتعلق بها الفرقة فوجب أن تتعقبها البينونة كالعدة : ولأنه قول تعلق به الفرقة إلى مدة فوجب أن يقع بانقضائها كما لو قال : إذا مضت أربعة أشهر فأنت طالق .

                                                                                                                                            ودليلنا قول الله تعالى : للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر [ البقرة : 226 ] وفي هذه الآية ستة أدلة :

                                                                                                                                            أحدها : أنه أضاف مدة الإيلاء إلى الأزواج بقوله تعالى : للذين يؤلون فجعل المدة لهم ولم يجعلها عليهم ، فوجب أن لا تستحق المطالبة إلا بعد انقضائها كأجل الدين .

                                                                                                                                            والدليل الثاني : قوله : فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم [ البقرة : 226 ] فذكر الفيئة بعد المدة بفاء التعقيب فوجب أن تستحق بعدها ، كما قال تعالى : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [ البقرة : 229 ] فاقتضت فاء التعقيب أن يكون الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان بعد طلاق المرتين .

                                                                                                                                            فإن قيل فاء التعقيب في المدة يوجب أن يكون بعد الإيلاء لا بعد المدة فهي محمولة على موجبها ، قيل قد تقدم في الآية ذكر الإيلاء ثم تلاه المدة ثم تعقبها ذكر الفيئة فإذا أوجبت إلغاء التعقيب بعد تقدم ذكره لم يجز أن يعود إلى أبعد المذكورين ووجب أن يعود إليهما أو إلى أقربهما ، وعلى أي هذين الأمرين كان فهو قولنا .

                                                                                                                                            والدليل الثالث : قوله : وإن عزموا الطلاق [ البقرة : 227 ] فجعله واقعا بعزم الأزواج لا بمضي المدة ، وليس انقضاء المدة عزيمة وإنما العزم ما عده من فعله كما قال تعالى : ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله [ البقرة : 235 ] فإن قيل فترك الفيئة عزم على الطلاق قيل العزم ما كان عن اختيار وقصد وهو لم يقصد ترك الوطء لشهوة ، ووقع الطلاق عندهم وإن لم يكن من عزمه .

                                                                                                                                            والدليل الرابع : أن الله تعالى خيره في الآية بين أمرين الفيئة أو الطلاق ، والتخيير بين أمرين لا يكون إلا في حالة واحدة كالكفارات ولو كان في حالتين لكان ترتيبا ولم يكن تخييرا .

                                                                                                                                            والدليل الخامس : أن التخيير بين أمرين يوجب أن يكون فعلهما إليه ليصح منه اختيار فعله وتركه ولو لم يكن له فعله لبطل حكم خياره . [ ص: 342 ] والدليل السادس : ذكره ابن سريج أن الله تعالى قال : وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم [ البقرة : 227 ] فاقتضى أن يكون الطلاق عن قول مسموع ، فإن قيل : معناه أنه لم يزل سميعا عليما قال : وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم [ البقرة : 244 ] قيل لا يجوز حمله على هذا لأنه معقول بغير هذه الآية ، وكذا في آية الجهاد سميع لقولهم في التحريض ، عليم بنيتهم في الجهاد ، ومن طريق المعنى هو أنها مدة تقدرت بالشرع لم تتقدمها الفرقة فوجب أن لا يقع بها البينونة كأجل العنة وقولنا تقدرت بالشرع احترازا من قوله : إذا مضت أربعة أشهر فأنت طالق وقولنا لم تتقدمها الفرقة احترازا من العدة ، ومن أصحابنا من علل هذا الأصل بأوضح من هذا التعليل ، فقال : لأنها مدة شرعت في النكاح بجماع منتظر فوجب أن لا يقع بها الفرقة كأجل العنة ، ولأنها يمين بالله تعالى توجب الكفارة فلم يقع بها الطلاق كسائر الأيمان وكالإيلاء على أقل من أربعة أشهر : ولأنه لفظ لا يصح أن يقع به الطلاق المعجل فوجب أن لا يقع به الطلاق المؤجل كالظهار : ولأن الإيلاء قد كان طلاقا في الجاهلية فنسخ كالظهار فلم يجز أن يقع به الطلاق : لأنه استيفاء حكم منسوخ : ولأن الطلاق يقع بصريح أو كناية وليس الإيلاء صريحا فيه ولا كناية لأنه لو كان صريحا لوقع معجلا إن أطلق أو إلى الأجل المسمى إن قيده ولو كان كناية لرجع فيه إلى نيته وليس الإيلاء كذلك ولا ينتقض هذا الاستدلال باللعان حيث وقعت به الفرقة وإن لم يكن صريحا ولا كناية : لأن اللعان يوقع الفسخ ولا يوقع الطلاق ، والفسخ يقع بغير قول والطلاق لا يقع إلا بقول .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن الآية بقراءة ابن مسعود هو أنه لم ينقلها ثقاة من أصحابه فشذت ، والشاذ متروك ، ولو ثبتت وجرت مجرى خبر الواحد لحملت على جواز الفيئة في مدة التربص .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم : إنكم تزيدون على مدة التربص ، فهو أننا لا نزيد عليها وإنما نقدر بها مطالبة الفيئة في مدة التربص .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم : إن جواز الفيئة فيها دليل على استحقاقها فيه فهو باطل بالدين المؤجل يجوز تقديمه قبل أجله ولا يدل ذلك على استحقاقه فيه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على العدة مع انتقاضه بمدة العنة فهو أن المدة فيها لما تقدمتها الفرقة جاز أن تقع بها البينونة ، ولما لم تتقدم مدة الإيلاء لم يجز أن تقع بها الفرقة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم إذا علق طلاقها بمضي أربعة أشهر مع انتقاضه بمدة العنة ، أن المعنى فيه أنه لو علق بأقل من أربعة أشهر وقع قبلها ولو علق بأكثر من أربعة [ ص: 343 ] أشهر لم يقع قبلها وليس الإيلاء عندهم كذلك والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية