الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا صح ما ذكرنا أن العمرى والرقبى يملك بهما الرقبى ، فسنشرح المذهب فيها ونبدأ بالعمرى منهما ، وللمعمر في العمرى ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يقول : قد جعلتها لك عمرك .

                                                                                                                                            والثاني : أن يقول : قد جعلتها لك عمري .

                                                                                                                                            والثالث : أن يقول : قد جعلتها لك عمري أنا .

                                                                                                                                            فأما الحال الأول وهو أن يقول : قد جعلتها لك عمرك أو حياتك ، فلا يخلو في ذلك من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يقول : قد جعلتها لك عمرك ولعقبك من بعدك ، أو لورثتك بعدك ، فهذه [ ص: 541 ] عطية جائزة وتمليك صحيح ، قد ملكها المعمر ملكا تاما ثم صارت لورثته من بعده هبة ناجزة وملكا صحيحا ، وتمامها بعد عقد العمرى بالقبض الذي به تتم الهبات ، وليس للمعطي بعد الإقباض الرجوع فيها وإن كان قبله مخيرا .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يقول : قد جعلتها لك مدة عمرك على أنك إذا مت عادت إلي إن كنت حيا ، أو إلى ورثتي إن كنت ميتا ، فهذه عطية وتمليك فاسد : لأن تمليك الأعيان لا يصح أن يتقدر بمدة ، ولا يجوز أن يجعل على التأبيد لما كان الشرط يقتضي أن يكون فاسدا ثم هي على ملك المعطي سواء أقبض أو لم يقبض ، وله استرجاعها وإن تصرف فيها المعطى ، أو لا يرجع عليه بأجرها مدة تصرفه فيها : لأنه قد أباحه إياها .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يقول : قد جعلتها لك مدة عمرك ، ولا يشترط أن يرجع إليه بعد موته كما ذكرنا في القسم الثاني ، ولأن يكون له ولورثته كما ذكرنا في القسم الأول ففيه قولان : أحدهما : وهو قوله في القديم رواه الزعفراني عنه : أنه عطية باطلة لتقديرها بمدة الحياة ، ولأن جابرا روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أيما رجل أعمر له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا يرجع إلى الذي أعطاها : لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث فجعل صحيح العطية بأن يجعله له ولعقبه ، فإذا لم يجعلها لعقبه لم يصح ، ولأنه تمليك عين قدر بمدة فوجب أن يكون باطلا كما لو قال : بعتك داري هذه عمرك ، ولأنها عمرى مقدرة فوجب أن تكون باطلة كما لو قال : قد أعمرتها سنة ، ولأنه إذا جعلها له مدة عمره فقد يحتمل أن يريد الرجوع إليه بعد موته فيبطل ، ويحتمل أن يريد أن يورث عنه فيصح ، فلم يجز أن يحمل على الصحة مع الاحتمال الفاسد .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو الصحيح وبه قال في الجديد وأكثر القديم أنها عطية جائزة وتمليك صحيح يكون للمعطي في حياته ثم لورثته بعد وفاته بقوله عنه : لا تعمروا ولا ترقبوا ، فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو سبيل الميراث ولرواية زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل العمرى للوارث ، ولما روي أن رجلا من الأنصار أعمر أمه عبدا ، فلما توفيت نازعه الورثة فيه فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - به ميراثا فقال الرجل : يا رسول الله ، إنما جعلته لها عمرها فقال عليه السلام : فذلك أبعد لك ولأن الأملاك المستقرة إنما يتقدر زمانها بحياة المالك ، ثم تنتقل بعد موته إلى ورثة المالك ، فلم يكن ما جعله له من الملك مدة حياته منافيا لحكم الأملاك ، وإذا لم تنافيه اقتضى أن يصح ، وإذا صح اقتضى أن يكون موروثا فأما البيع إذا قال : بعتكها مدة حياتك فهو باطل . والفرق بينهما من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو فرق ابن سريج على هذا الشرط يقتضي فسخا منتظرا ، والبيع إذا كان فيه فسخ منتظر بطل ، والهبة إذا كان فيها فسخ منتظر لم تبطل كهبة الأب ؛ فلذلك بطل البيع بهذا الشرط ، ولم يبطل العمرى بهذا الشرط .

                                                                                                                                            [ ص: 542 ] والفرق الثاني : وهو فرق أبي إسحاق المروزي أن شروط البيع تقابل جزاء من الثمن ، فإذا بطلت سقط ما قابلها منه فأفضى إلى جهالة الثمن ؛ فلذلك بطل البيع بهذا الشرط وليس في العمرى ثمن يقضي هذا الشرط إلى جهالته ؛ فلذلك صحت مع الشروط .

                                                                                                                                            فأما رواية جابر أنه أعمر عمرى له ولعقبه مع باقي الروايات المطلقة التي هي على العموم إذ ليس تتنافى في ذلك ، فإذا قلنا بقوله في القديم أن التمليك للرقبة لا يصح ، فإن الميراث فيها لا يستحق فقد اختلف أصحابنا على هذا القول هل يملك المعمر المعطي الانتفاع بها مدة حياته أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه قد ملك الانتفاع بها مدة حياته وهذا مذهب مالك .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو الصحيح أنه لا يملك الانتفاع بها : لأن التمليك متوجه إلى الرقبة بما ذكرناه ، وإذا بطل لم يجز أن ينتقل إلى ملك المنفعة كالبيع الفاسد ، فعلى هذا الوجه لو تصرف فيها المعطي وانتفع لم يكن عليه أجرة : لأنها مباحة له ولأن كل ما لا يضمن بالعقد الصحيح لا يضمن بالعقد الفاسد ، ولكن لو تلفت في يده ، فإن كان تلفها من غير فعله لم يضمن لما ذكرنا ، وإن كان تلفها بفعله ضمنها : لأنه عدوان ، وهو غير مالك لها ، فهذا حكم قوله : ( قد جعلتها لك مدة عمرك ) ، وإن قلنا بقوله في الجديد أن العطية صحيحة ، وأن العمرى موروثة فلا رجعة للمعمر المعطي فيها بعد القبض .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية