الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ومن أرفعيتها وجوب إقامتها بجميع الجوارح : ]

ومن الدليل على عظم قدرها ، وفضلها على سائر الأعمال : أن كل فريضة افترضها الله ، فإنما افترضها على بعض الجوارح دون بعض ، ثم لم يأمر بإشغال القلب به إلا الصلاة ، فإنه أمر أن يقام بجميع الجوارح كلها ، وذلك أن ينتصبه العبد ببدنه كله ، ويشغل قلبه بها ، ليعلم ما يتلو ، وما يقول فيها ، ولم يفعل ذلك بشيء من الفرائض ، لم يمنع أن يشتغل العبد في شيء من الفرائض بعمل سواه ، إلا الصلاة وحدها ، فإن الصائم له ، أن يلتفت ، وينام ، ويتكلم بغير ذكر الصوم ، ويعمل بجوارحه ، ويشغلها فيما أحب من منافع الدنيا ، ولذاتها مما أحل له ، والمقاتل في سبيل الله ، له أن يلتفت ويتكلم ، والحاج في قضاء مناسكه ، قد أبيح له أن يتكلم ، كذلك فيما بين ذلك ، وينام ، ويشتغل بما أحب من منافع الدنيا المباحة له ، وله أن يتكلم في الطواف ، وكذلك إعطاء الزكاة ، وجميع الطاعات ، له أن يعمل فيها ، ويتفكر في غيرها ، ومنع المصلي من الأكل والشرب ، [ ص: 172 ] وجميع أعمال الدنيا من الالتفات ، والأفعال بالجوارح ، إلا بالصلاة وحدها ، ومن التفكر إلا فيما يتلو ، ويقول ، إلا أن العمل في الصلاة بغيرها ، مختلف في الضرر في الدين ، فمنه ما يفسد الصلاة ، ومنه ما يلزم به سجود السهو ، ومنه ما يكون منقوصا ، من الثواب على صلاته ، إلا أن أهل العلم مجتمعون ، على أنه إذا شغل جارحة من جوارحه بعمل من غير عمل الصلاة ، أو بفكر ، وشغل قلبه بالنظر في غير أمر الصلاة ، أنه منقوص من ثواب ، من لم يفعل ذلك ، تاركا جزءا من تمام صلاته وكمالها ، فالمصلي كأنه ليس في الدنيا ، ولا في شيء منها ، إذا كان بجميع قلبه ، وجميع بدنه في الصلاة ، فكأنه ليس في الأرض ، إلا أن ثقل بدنه عليها ، وذلك أنه يناجي الملك الأكبر ، فلا ينبغي أن يخلط مناجاة الإله العظيم بغيرها .

وكيف يفعل ذلك والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن الله مقبل عليه بوجهه ، فكيف يجوز لمن صدق ، بأن الله مقبل عليه بوجهه ، أن يلتفت ، أو يغيب ، أو يتفكر ، أو يتحرك بغير ما يحب المقبل عليه بوجهه ؛ لأن اشتغاله في صلاته ، بغيرها من الالتفات ، أو العبث ، أو التفكر في شيء من الدنيا ، هو إعراض عمن أقبل عليه ، وما يقوى قلب عاقل لبيب ، أن يقبل عليه من الخلق ، من له عنده قدر ، فيراه يولي عنه بمعنى من المعاني ، وكل مقبل سوى الله ، لا يطلع على ضمير من ولى عنه بضميره ، والله تعالى مقبل على المصلي بوجهه ، يرى إعراضه بضميره ، وبكل جارحة من جوارحه ، سوى صلاته ، التي أقبل عليه بوجهه من [ ص: 173 ] أجلها ، فكيف يجوز لمؤمن عاقل ، أن يملها أو يلتفت ، أو يتشاغل بغير الإقبال على رب العالمين ، إذ أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله مقبل عليه بوجهه ، فهل يفعل ذلك من فعله ، إلا قلة مبالاة بالمقبل عليه ، أو كيف يجوز لمن عرف أن الله مقبل عليه وهو مناج له ، أن يعرض عنه ، بما قل أو كثر .

التالي السابق


الخدمات العلمية