الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1064 - حدثني أبو بكر أحمد بن منصور الرمادي ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، قال : حدثنا معلى بن زياد ، قال : لما كان من قتال يزيد خشيت أن أوخذ ، ففررت ، وتنكبت حلقة الحسن مخافة أن أوخذ فيها ، فأتيت منزله ، فدخلت عليه ، فقلت : يا أبا سعيد ، كيف هذه الآية ؟ قال : أية آية ؟ قلت : قول الله تعالى : ( وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان ) إلى قوله : ( لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ) .

قلت : يا أبا سعيد ، سخط الله تعالى على هؤلاء لقولهم الإثم ، وأكلهم السحت ، وذم قراءها حين لم ينهوا ، فقال : [ ص: 975 ] [ ص: 976 ] ( لبئس ما كانوا يصنعون ) ، فقال الحسن : " يا عباد الله ، إن القوم عرضوا بالسيف ، فحال السيف دون الكلام " ، فقلت : يا أبا سعيد ، فهل تعرف لمتكلم فضلا ؟ فحدث الحسن بحديثين :

1 - بحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه ، أو شهده ، فإنه لا يقرب من أجل ، ولا يباعد من رزق أن يقال بحق " .

2 - وحدث بحديث آخر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس لمؤمن أن يذل نفسه " ، قيل : يا رسول الله ، وما إذلاله لنفسه ؟ قال : " يتعرض من البلاء ما لا يطيق " . [ ص: 977 ]

قلت : يا أبا سعيد ، يزيد الضبي ومقامه ، وكلامه ، فقال الحسن : " إنه لم يخرج من السجن ، حتى ندم على مقالته ، فقمت من مجلسي ، فأتيت يزيد ، فسلمت عليه ، وقلت : إني كنت عند الحسن آنفا ، فذكرتك له ، فقال : الحسن ، فقلت : نعم ، حتى نصبتك له نصبا ، قال : فما قال ؟ قلت : قال : أما إنه لم يخرج من السجن حتى ندم على مقالته ، فقال يزيد : ما ندمت على مقالتي ، وايم الله لقد قمت مقامات خاطرت فيه بنفسي ، وما لقيت من إخواني أشد علي من مقامي عندي ، إن طائفة منهم قالوا : مراء ، وقالت طائفة أخرى : إني مجنون .

ثم حدث يزيد ، فقال : أتيت الحسن ، فقلت : يا أبا سعيد ، قد غلبنا على كل شيء ، وعلى صلاتنا تغلب ؟ ثم قال الحسن : يا عبد الله ، إنك لن تضيع شيئا ، إنما تعرض [ ص: 978 ] نفسك لهم ، ثم أتيته مرة أخرى ، فقال لي مثل ذلك ، ثم أتيته مرة أخرى ، فقال لي مثل ذلك ، فقمت يوم الجمعة ، والحكم بن أيوب يخطب الناس ، وكان ختن الحجاج ، وابن عمه ، فقلت : الصلاة يرحمك الله ، الصلاة ، فما عدا أن تكلمت ، جاؤوني يعدون من كل ناحية ، حتى أخذوا بلحيتي ، ورأسي ، وجعلوا يضربون وجهي ، وصدري ، وسكت الحكم ، وجاؤوني ، وفتح باب المقصورة ، ودخلت ، وقد ضربت حتى أقاموني بين يديه ، وهو على المنبر ، فقال لي الحكم : أمجنون أنت ؟ قلت : أصلح الله الأمير ، ما بي جنون ، قال : أما كنا في صلاة ؟ قلت : أصلح الله الأمير ، أليس أفضل الكلام كلام الله تعالى ؟ قال : بلى ، قلت : أرأيت لو أن رجلا صلى الغداة ، ثم نشر مصحفا ، فقرأ حتى يمسي ، لا يصلي بين ذلك ، أكان ذلك قاضيا عنه ؟ فقال الحكم : والله إني لأحسبك مجنونا ، قال : وأنس ، والله لجنب المنبر جالس على ذقته خرفة ، فناديت : يا أنس ، يا أبا حمزة ، أذكرك الله ، فإنك رجل من الأنصار ، وخدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبحق قلت ، أم بباطل ، أبمعروف قلت ، أم بمنكر ؟ فوالله ما أجابني بكلمة ، قال : يقول الحكم : يا أنس ، قال : لبيك ، [ ص: 979 ] أصلحك الله ، قال : وقد كان ذهب ميقات الصلاة ، قال : يقول أنس : قد بقي من الشمس بقية ، فقال : احبساه ، وذهب بي إلى السجن ، وجاء إخواني ، والناس ، فشهدوا أني مجنون ، فكتب في إلى الحجاج أن رجلا من بني ضبة قام يوم الجمعة ، فتكلم ، وقد شهدت عندي الشهود العدول أنه مجنون ، فكتب الحجاج إلى الحكم : إن كانت شهدت عندك العدول أنه مجنون ، فخل سبيله ، وإلا فاقطع يديه ، ورجليه ، واصلبه ، فتركت ، فمكثت ما شاء الله تعالى ، ثم مات أخ لنا ، فصلينا عليه ، ثم جلسنا نذكر الله تعالى ، فلا والله ما شعر إلا نواصي الخيل ، وإذا الحكم بن أيوب قد اطلع في الخيل ، فلما رأوا سوادنا توجهوا نحونا ، فهرب كلهم ، وتركت وحدي ، وجاء الأمير حتى وقف علي ، فقال : ما كنتم تصنعون ؟ قلت : أصلح الله الأمير ، أخونا هذا مات ، فدفناه ، ثم قعدنا نذكر معادنا ، ونذكر ربنا ، ونذكر ما صار إليه أخونا ، فقال : ألا فررت كما فروا ؟ قلت : أصلح الله الأمير ، ما يفر بي ، أنا أبرأ من ذلك ، وآمن للأمير من ذاك ، قال : فما رأيته عرفني ، فقال عبد الملك بن المهلب - وهو صاحب الحربة - : أصلح الله الأمير ، أتدري من هذا ؟ قال : من هذا ؟ قال : هذا المتكلم يوم الجمعة ، قال : والآن تعود تعرض لي ، إنما [ ص: 980 ] علي يجترئ ، خذاه ، فأخذت ، فضربني أربعمائة ، حتى ما أدري متى رفعني ، ولا متى ضربني ، وهو واقف ، ثم بعث بي إلى الحجاج ، فبعثني إلى الحبس ، فما زلت في الحبس حتى مات الحجاج " .

التالي السابق


الخدمات العلمية