الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال أبو عبد الله : إن سأل سائل من المرجئة فقال : هل لله دين ، من أصابه كان مؤمنا ، مسلما ؟ فيقال له : نعم ، دين الله ، وهو الإسلام ، وهو الإيمان ، له أصل ، من أصابه كان مؤمنا ، مسلما بالخروج من ملل الكفر ، والدخول في ملة الإسلام ، ولذلك الأصل فرع ، وهو القيام بما أقر به ، وكمال الأصل أن يأتي بالقائم ، فإن ضيع شيئا من الفرائض ، فقد انتقص من الفرع ، ولم يزل الأصل .

فإن قال : بين لنا الأصل ، والفرع ؟ قيل له : الأصل : التصديق بالله ، والخضوع لله بإعطاء العزم للأداء بما أمر به ، مجانبا للاستنكاف ، والاستكبار ، والمعاندة .

والفرع تحقيق ذلك بالتعظيم لله ، والخوف له ، والرجاء الذي أوجبه على عباده ، الذي يبعثهم على أداء الفرائض ، واجتناب المحارم ، فإذا أدوا الفرائض ، واجتنبوا المحارم من قلوبهم ، وأبدانهم ، فقد اجتمع أهل السنة على أن هذا هو الإيمان المفترض . [ ص: 805 ]

ثم قال بعضهم : هو الإيمان كله ، وليست النوافل منه في شيء ، واحتجوا بأن الله افترض الإيمان ، ولم يبح تركه ، فجعل جحده كفرا .

فقالوا : من جحد بفريضة فهو كافر ، ولو جحد بنافلة من النوافل ، لم يكن كافرا ، والكفر ضد الإيمان ، فثبت أن الإيمان هو المفترض ، وأن النوافل ليست من الإيمان ، ولو كانت من الإيمان لكان من جحد بها كافرا .

قالوا : وأما من احتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " ، فليس هذا مما يدل على أن النوافل من الإيمان ، لأنه واجب على الأمة أن يميطوا الأذى عن طريق المسلمين ، لا يحل لهم أن يحفروا الآبار ، ويتركوها مفتوحة ، يقع فيها الضعيف ، والمكفوف ، والصبي ، وكذلك لا يحل لهم أن يضعوا العذرة على الطريق ، فيدوسها الناس ، ويتأذون بها ، وكذلك لا يحل لهم أن يضعوا السباع في الطريق ينهش الناس ، ويجرحهم .

قالوا : فإنما عنى النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يفعل ما حرم الله عليه من أذى المسلمين . [ ص: 806 ]

وقالوا : لو كان التنفل من الإيمان ، ما كمل إيمان أحد أبدا ، ولا ملكا مقربا ، ولا نبيا مرسلا ، فكان كل من لقي الله من لقيه ، لقيه ناقص الإيمان .

قالوا : وهذا شتم لرسل الله ، وملائكته ، وإيجاب أن الإيمان ليس بمعلوم ، ولا له نهاية ، والله لا يأمر بما ليس له نهاية ، وليس بمعلوم .

ففي ذلك دليل أن الفرائض من الإيمان ، وليست النوافل منه في شيء ، ولكنها بر ، وإحسان ، وقربة .

وقال الجمهور الأعظم من أهل السنة : الإيمان واحد ، له أصل ، وفرع ، فأصله مفترض ، وفرعه منه مفترض ، ومنه لا مفترض ، فأما المفترض فهو ما أوجبه الله على عباده بقلوبهم ، وجوارحهم ، وذلك معلوم محدود ، لأن الحكم لا يوجب إلا معلوما يستوجب الثواب من أتاه ، ويستوجب الذم ، والعقاب من قصر عنه بعد علم ، والباقي من الإيمان هو نافلة لم يفترضه الله عز وجل .

التالي السابق


الخدمات العلمية